أولاً: التحدي الفكري والثقافي
هناك اهتمام متزايد بموضوع الشباب، تتبارى فيه الدول؛ كي تستحوذ على عقولهم، لما ترى فيه صلاحها، فأنظمة الحكم في كل دولة، تريد من الشباب أن يسيروا وفق رغباتها، لذا فإنها تستثمر ماكينة الإعلام وجميع وسائلها التربوية والتثقيفية، بل حتى القمعيَّة منها، بهدف خدمة تطلعاتها وأهدافها، وها هو فرعون يعلنها صراحة، إذ يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}[1][11].
إن الشباب «يشكلون العبء الذي تضيق به السلطات ذرعًا، وتخشاه أيما خشية، في الوقت نفسه الذي تقصِّر فيه أيما تقصير في وضع الاستراتيجيات الكفيلة بحسن توظيف طاقاتهم الإنتاجية، وتوقهم إلى البذل والعطاء. إنها تسكِّن الأوجاع وتخدِّر الوعي من خلال ملهاة وزارات الشباب والرياضية [والرياضة]. وكأن قضية الشباب هي مجرد قضية مباريات رياضية»[2][12].
ومن الواضح أنَّ الشباب يتأثَّر بالتحشيد أكثرَ من تأثُّره بعملية الإقناع، فعندما يصنع رأيًا عامًّا في مجتمع ما حول مسألة معيَّنة؛ فإن الشباب ينساقون مع عملية التحشيد هذه بطريقة اتباعية محضة، وإن لم يصاحبْها اقتناع تام؛ لأنَّ المهيمنين على وسائل الإعلام: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}[3][13]، فما عادت تبصر الحقيقةَ.
ومن يعيش ضمن محيطٍ بشري أحادي الرؤية، أو مخالف لمسلَّماته وقناعاته، لا بدَّ أن يمرّ بحالتين -إن لم يشأ اعتزال مجتمعه-، هما: التأثير أو التأثُّر، فإن كان يمتلك وعيًا وحصانةً وقوَّةً، فسيغدو مؤثرًا في الآخرين من حوله، وإلاّ فسيتأثَّر بهم، ليُصاغ فكره وسلوكه، كما يشاؤون، وربما عاش مؤثرًا ومتأثرًا، يحمل النقيضين!
ونجد أن القرآن الكريم يطرح لنا مثالاً صارخًا في الاستقامة، ومواجهة التحدِّي الفكري، متمثلاً في النبي إبراهيم (عليه السلام)، الذي تمرَّد على منطق: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[4][14]، وأعلنها صريحةً في وجه أبيه، بقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[5][15]، وبتوكُّله على الله وحده، واجه بالحجة والمنطق، عبدة الأصنام، ولجأ -كحلٍّ أخير- لتحطيم تماثيلهم المزيَّفة التي يدعونها جهلاً آلهة، واستثنى منها الصنم الأكبر، وبسخرية المنتصر، علّق الفأس عليه، ليبدأ مع قومه مجدَّدًا حوارًا فكريًّا، لعلّهم يعودون إلى أنفسهم، لكنهم أصرّوا على باطلهم، وألقوه في نارٍ عظيمة، وشاءت إرادة الله -سبحانه وتعالى- أن تكون بردًا وسلامًا على نبيه، وليكونوا هم الأخسرين.
هذا مثال لفتى لم يتجاوز السادسةَ عشرة من عمره، كما أشارت بعض التفاسير، ومع ذلك وجدناه قد تحدَّى مجتمعًا وثنيًّا بأكمله، وخرج منتصرًا، ليكون بإرادته أمةً {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ}[6][16].
ووجدنا أيضًا أن الفتية -كما جاء في آية سالفة- آووا إلى الكهف، هربًا من دقيانوس وجبروته، ليحافظوا بذلك على دينهم.
والشباب في هذه المرحلة الزمنية، قد يكونون بحاجةٍ إلى كهفٍ من نوعٍ آخر؛ يلتجئون إليه، وهم الأعرف بميزاته وتقنياته. فربما يكون هذا الكهف: تجمُّعًا إيمانيًّا، أو مركز علمٍ ومعرفة، أو عالمًا ربانيًّا، أو كتابَ علمٍ يُنتفَع به، ليقيهم: فتن الزمان، وألاعيب الشيطان.
وقد لا يكفي أن يلجأَ الشباب إلى الكهف دون برنامج مدروس، كفيل بتحقيق عناصر النجاح، إذ لابدَّ من البرنامج المعتمد أولاً وأخيرًا على طلب الرحمة والمعونة من ربِّ العباد، الذي هو الغاية ومحطُّ الرجاء؛ لتحصيل الرشد في مسيرة الحياة.
ولا نقصد باللجوء للكهف طلب العزلة، وإنما قصدنا به محطَّةً للتزود الإيماني والفكري؛ لتحقيق الانطلاقة الرشيدة والفاعلة في حياة الشباب.
مع ملاحظة إنَّ فتية أهل الكهف، كانوا بشرًا، «ولم يكونوا رسلاً، ولكنهم آمنوا بربهم وتحرروا من ضغط الجاهلية فأيدهم الله، وكذلك كل إنسان في العالم يملك إرادة التحرر، وعندما يضعها موضع التنفيذ فإن هدى الله يأتيه ويؤيده»[7][17].
ونحن على قناعة بأن المؤمن الذي يعيش في وسط غير وسطه، يستهلكه الوسط الذي يعيش فيه، كما لو أرقنا كأسًا من الماء العذب الحلو في بحيرة مالحة، فإن البحيرة تستهلكه لا محالة. وهذا الحكم يجري في المجتمع كما يجري في التفاعلات الكيميائية، من غير فرق. إلا أن يعزل المؤمن نفسه بعازل نفسي قوي عن المؤثرات والعوامل القاهرة في ذلك الوسط، فعندئذٍ يعيش في حصانة كاملة، رغم أنه يمكن أن يتعاطى في ذلك الوسط كل ما يتعاطاه الناس من شؤون عمله ومعيشته[8][18].
وها نحن نعيش في هذه المرحلة الزمنية عصر الهيمنة الأمريكية على مختلف الصُّعُد، وأخطرها يتمثَّل في سيطرتها على وسائل الإعلام التي يديرها شياطين الإنس، بطريقة أذهلت الشيطان نفسه!!
أجل، لقد صدمنا بموجة العولمة، وبهذه الثورة الإعلامية، وبما تحمل من قيم وعاداتٍ دخيلة، وما صاحبها من بثٍّ لمفردات جديدة في واقعنا، غيَّرت، بل هدمت مناطقَ من الوعي، لم يكن بالإمكان خلخلتُها؛ لولا هذه القفزة في مجال الاتصالات، فنحن الآن نعيش عصر الصورة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فما نبنيه في سنوات، قد تزعزعه صورة يلتقطها الشباب عبر الأقمار الصناعية، أو شبكة الإنترنت، أو خدمة البلوتوث!
ومن طرائف الأمور أن الولايات المتحدة الأمريكية وبهيمنتها الإعلامية، غدت تروِّج لإسلامٍ معاصر، يسير وَفْقَ الإرادة الغربية، ويلزم أن يتبنَّى النموذج الغربي. وهذا تحدٍّ من التحديات التي يعيشها الشباب، فالعولمة الثقافية تفرض نمطًا من الحياة، لا يُراد لشبابنا أن يتجاوزوه.
ففي ظلِّ هذه الأجواء الضاغطة التي يسيل لها لعاب الشيخ الطاعن في السنِّ، فضلاً عن الشاب المراهق! أصبحنا نعيش في زمنٍ إن غفلنا فيه لبرهةٍ يسيرة عن شبابنا؛ فإننا قد نخسرهم للأبد، كما خسر نبي الله نوح (عليه السلام) ابنَه الشاب؛ ليصبح فيما بعدُ من المغرَقين[9][19].
ثانيًا: التحدي الأخلاقي والسلوكي
وهو امتدادٌ للتحدِّي الفكري والثقافي، باعتبار أنَّ السلوك الإنساني، ينبثق من ثقافة يحملها الفرد، تتمثَّل في: مأكله وملبسه وحديثه و… إلخ.
وقد لا نجدُ أفضلَ من قصَّة نبي الله يوسف الصدِّيق (عليه السلام)، لنجعلها فاتحةً للحديث عن التحدي الأخلاقي والسلوكي في حياة الشباب، فهي -بلا شكٍّ- خيرُ الأمثلة التي سردها القرآن الكريم للشباب، ليعطيهم -ويعطينا- درسًا في مواجهة التحدِّي الأخلاقي، الذي يعصف بهم، إذ خرج نبي الله منتصرًا على مكيدة زليخا، بعد أن:
{غَلَّقَتْ الأَبْوَابَ، وَقَالَتْ: هَيْتَ لَكَ. قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ}[10][20]..
ويستمرُّ الحدَث، بين شبق زليخا، وممانعة يوسف، ويلخّص القرآن الكريم، المشهد بكلمتين: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}[11][21]..
هي تريد الظَّفَر به، وهو يريد الحفاظ على دينه، وبعد أن خُيِّر -في القصَّة التي يعرض القرآن تفاصيلها- بين الامتثال لأوامر زليخا أو السجن، اختار السجن، ولم يخرج منه إلاّ وخبر براءته يصك الآذان؛ لينقذ بعد ذلك البلاد من كارثة القحط، ويدخلها في دين الله أفواجًا، ويتحقَّق وعد الله -سبحانه وتعالى- له، بتمكينه في الأرض.
فقصَّة نبي الله يوسف (عليه السلام)، وإن كانت تعالج في محطَّة من محطاتها المهمة، مسألة الصمود والعفّة مقابل الشهوة الجنسية تحديدًا؛ إلاّ إنها وبما تحمله من دروس متعددة ومفصلّة، كفيلة بأن تقوّم أخلاقنا وسلوكنا، مع من حولنا في مختلف المحطات العمرية والحياتية التي نمرُّ بها، فقد أبرزت الأخلاق العالية للنبي يوسف (عليه السلام) مع جميع المسيئين إليه، وفي طليعتهم: أخوته الذين ألقوه في غيابة الجب، وزليخا التي طعنته في أخلاقه، وأودعته السجن.
وبداهة، إنَّ مجتمعنا المحلّي، وإن قيل إنه مجتمعٌ محافظ، إلاَّ أنه يعيش درجةً عاليةً من الانفتاح، فلا وجود -حاليًّا- لحدود أو قيود تمنع الشباب من التأثُّر والتفاعل مع الثقافات الأخرى -الدخيلة إن صح التعبير- وإذا كنّا في السابق نُشَبِّه العالم بالقرية الصغيرة؛ فإن البعض يُشَبِّهُهُ الآن براحة اليد المبسوطة التي تستطيع أن تبصر فيها ما تشاء.
لذا، لا يجدي أن نعمل بسياسة غلق الأبواب، فهي غيرُ مجدية البتَّة، إذ إن رياح العولمة الثقافية، والثورة المعلوماتية؛ نخرت بيوتنا نخرًا، فلا عاصمَ اليوم من طوفانها؛ إلا بتربية سليمة، تكفل الحصانة الذاتية، لجيل محاصر، بألسنة اللهب، من كل صوب وناحية. رغم أن التحديات التي يواجهها الشباب، ليست خاصة بهم، بل هي قد تؤثر في مجمل الناس، -خصوصًا الفتيات، أو النصف الآخر للمجتمع، كما يحلو للبعض- إن لم يتمتعوا بحصانة دينية كافية، خاصة إذا علمنا «إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض»[12][22].
وقد نتسالم أن الشاب الذي يعيش في أجواء إيمانية مصحوبة بالتوجيه والتثقيف، داخل أسرته ومحيطه؛ فإنه، وإن سار لفترة زمنية في طريق الغيِّ والضلال؛ لا عجب إن عاد لرشده، لما يحمله من قيم وتعاليم، قد تجذَّرت في قلبه، بعد أن يزيح ما علق به من أدران النفس والشيطان، مهما طغت، وتوبة إخوة يوسف الصادقة قد تكون خير مثال للتوبة.
إذًا، علينا أن نحصِّن شبابنا بطريقة واعية ضد: الأجواء الملوثة + أصدقاء السوء + العبثية أو انعدام روح المسؤولية؛ لكيلا تصدأ نفوسهم وقلوبهم، «فإن الهداية والضلالة، إذا ابتدأ بها الإنسان زادت تدريجيًّا، لما يجمع الذهن لها من الشواهد والمقومات»[13][23].
وغير خافٍ على القارئ؛ أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد وضع، إلى جنب تعاليم القرآن الكريم، برامج عملية للشباب؛ ليتجاوزوا بتطبيقها الانزلاق في مستنقع الشهوات، وطلبًا للاختصار، أكتفي بحديث نبويٍّ، يُقدِّم علاجًا فعّالاً لصرف الشباب عن الوقوع في الزنا، إذ يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ناصحًا الشباب: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباه فليتزوج، ومن لم يستطعها؛ فليدمن الصوم فإنه له وجاء»[14][24].
وربما يصّح لنا القول: إن تطبيق الشباب للشق الثاني من حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يُعدُّ بمثابة أحد المداخل الصحيحة؛ لتحصيل العفّة التي أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بها، عندما قال: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}[15][25].
فبرنامج الصوم -بل الإدمان عليه- هو أحد الطرق الصحيحة للشباب؛ لكي يغنموا العفّةَ، إضافة لالتزامهم بغض البصر، عمّا حرم الله، و… إلخ.
ثالثًا: تحدي الفقر والحاجة
ونعني بهذا التحدِّي، جميع الأمور (المادِّية والمعنوية) التي تشكل حاجةً حقيقيةً للشباب، لدرجة أنهم يشعرون بالنقص، حين لا يمتلكونها أو تتوافر بين أيديهم.. فالنقص في الاحتياجات المادية يُعدُّ بلا ريب فقرًا، وكذا عدم إشباع الاحتياجات العاطفية للشاب، أو القدرة على تكوين صداقات ناجحة، هذه الأمور تدخل ضمن قائمة الفقر والحاجة، وعلاجها لا يقلُّ أهميةً عن معالجتنا للاحتياجات المادية، إن لم نقل بأولوية علاج الاحتياجات المعنوية أولاً.
وسبق أن أشار كاتب هذه السطور في عمله الموسوم: «أمة اقرأ… لا تقرأ»، إلى أن القرآن الكريم قبل أن يؤسِّس لأيِّ نظرية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.. وجَّه أنظارنا لأمر هو في غاية الأهمية، إذ وجّه خطابه لنا بصيغة الأمر، بقوله -عزَّ من قائل-: {اقرأ}[16][26]. وكأن القرآن الكريم، يقول لنا: لكي تعالجوا مشاكلكم وقضاياكم، مهما كبُرت أو صغُرت؛ فلا توجد بوابة أخرى باستطاعتها أن توصلكم لشاطئ السلام؛ أفضل من بوَّابة القراءة؛ لأنها المدخل الصحيح، لتشخيص العلل، وإيجاد الحلول.
فالتحدي المعرفي الذي يعيشه الشباب، مقدَّم على كلِّ التحديات؛ وفي هذا السياق أُذكِّر بالمثل الصيني المشهور الذي يقول: «إذا أعطيت الفقير سمكةً فإنك ستسدُّ بها جوعه؛ ولكن إذا علَّمته كيف يصطاد السمك فستكف يدَه عن استجداء الناس». فتقديم السمكة للفقير يبقى حلاًّ مؤَّقتًا؛ بينما تعليمُه طريقة الصيد؛ هو الحلُّ الأجدى والأنفع للقضاء على فقره وعازته.
وليس بخافٍ على القارئ أنَّ التحديات التي تواجه الشباب في مجتمع ما قد لا تشكل تحديًا حقيقيًّا للشباب في مجتمعٍ آخر، فالفقر المادي، قد لا يُعدُّ تحديًا، لشبابِ مجتمعٍ يثمل شبابه من البذخ!
ولعلّ لجوء بعض الشباب في مجتمعنا؛ للسرقة، أو ممارسة الفواحش، أو العنف، سواءً تمظهر هذا العنف باللسان، أو باليد؛ ليصل أحيانًا إلى درجة القتل؛ فإن هذه الأمور تكشف خللاً يعيشه الشاب الذي يُقدم على ممارسات منبوذة ومرفوضة، بل محرمة، بكل المقاييس: دينيًّا، واجتماعيًّا، وأخلاقيًّا، و… إلخ. ولا شك في أن هذا الخلل قد يكون نتيجة للبناء النفسي الخاطئ الذي عاشه الشاب في مرحلة طفولته، أو نتيجة لتربية خاطئة مُورست بحقِّه وولَّدت عُقدًا نفسية في أعماقه، وهذه نتيجتها الطبيعية، أو لأنَّ القدوات الزائفة تعشش في مخيلّته، وبداهة، إن من يعيش حالةَ الانحراف؛ فإنه بعيدٌ عن تعاليم الدين ومنطق العقل والضمير؛ لأن الدين القائم بالعدل، مع العقل والإرادة المتحرِّرة من الهوى والعصبيَّة والجهالة، بما تعنيه جنود الجهل، يُعدُّ أهم عاصم يحول بين الإنسان وبين السير في طريق الانحراف.
فالشاب المؤمن على سبيل المثال:
1- إنْ عاش فقيرًا، فهو لا يلجأُ للسرقة أو يُعرِّض نفسَه للمذلَّة، حتى قيل في وصف المستضعفين من المؤمنين: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}[17][27].
2- وإنْ تعرّض لمنطق القوَّة من عشيرته؛ فإنه يرفع شعار الشاب هابيل، الذي قال بصدق واطمئنان لأخيه قابيل: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[18][28].
3- وإنْ تعرّض لكيد النسوة والشيطان: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[19][29].
والجميل في الأمر أنَّ القرآن الكريم يُقدِّم لنا، أمثلةً وقدواتٍ إيجابيةً، تمكنت من الانتصار على كلِّ التحديات التي من المُمكن أن يتعرَّض إليها الشباب، في ساحة الامتحان الإلهي، في هذا العصر.
لذا، فإن المعالجة الواعية لتحديات الشباب تتطلب منّا، وضع خطط كفيلة بتحقيق احتياجاتهم، على المستويين: الروحي والمادي، وإلاّ؛ فإننا نتوقع أن يشتعل غضب الشباب مع أقل شرارة تقترب من أجسادهم، التي قد تُصبِح أكثر اشتعالاً من فتيل البارود!!
كنّا نردد مقولة: إنَّ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، والآن وبفضل سياسة الإلهاء والإغراء، التي يُروَّج لها في وسائل إعلامنا، صرنا نؤمن بأن الإنسان/ الشاب: كائن استهلاكي بطبعه!
فماذا نتوقع من شابٍّ، يؤمن بهذه الثقافة الجديدة، إن لم يكن بمقدوره أن يتحصَّل حتى على احتياجاته الأساسية؟ في ظلِّ صناعة إعلامنا لنجوم شبابية زائفة -تلفزيون الواقع مثالاً-، ترفل بالنعيم، والخيرات، التي تتساقط عليها من كل مكان. وبجانب هذه النعمة التي تُعطى للنجوم المُصنَّعة؛ تكتوي الشريحة العظمى من الشباب بنار البطالة والفقر، وليس بمقدورها صنع شيءٍ؛ إلاَّ بث نظرات الحسرة، وعض أصابع الحرمان!!
ولهذا، فلقد آن الأوان -كما يقول الدكتور مصطفى حجازي- «كي يطور علم خاص بهم هو «علم الشباب»… والواقع إن عدم تطوير مثل هذا العلم إلى الآن في جامعاتنا، ما هو سوى دليل إضافي على هدر الشباب. وتكفي نظرة سريعة إلى واقع الشباب في عصر العولمة عمومًا، وواقعهم في بلاد هدر الإنسان كي تتضح مدى أهمية مثل هذا العلم وضرورته، كأساس لوضع سياسات شبابية على الصعيد المجتمعي في التربية، والعمل والمشاركة الاجتماعية والانتماء، كما في الترويح»[20][30].
* حتى لا نخسر شبابنا تحتَ هذا العنوان، وبهدف التذكير والتأكيد، تراءى لي تسجيل مجموعة من الرؤى القرآنية؛ الكفيلة -إن شاء الله- بتجسير الفجوة بين المربِّين والجيل الشاب، ليكون بمقدورهم مُواجهة التحدِّيات التي تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال، وهي على النحو التالي:
أ– لا للنظرة الدونية للشباب:
فالشباب هم الطاقةُ الأهمُّ والأقوى لإحداث التغيير المرتقب، لما يتحلّون به من قوةٍ بدنيةٍ، وقدرةٍ عقلية، وخصائص نفسية، من شأنها أن تصنع المستحيل، أو ما يُخيَّل إلينا استحالته، لذلك فقد أولى الإسلام عناية مميّزة بهم، ولم ينظر إليهم نظرة دونية، ولعلّ ذلك يتضِّح من رفض القرآن الكريم، لمنطق استنقاص الشباب وتحقيرهم، من قبل الكافرين بالرسل والرسالات[21][31]، كما يتضِّح ذلك من خلال كلمات وتوجيهات رسول الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأئمَّة أهل البيت A، وعلماء المسلمين قديمًا وحديثًا.
ولا يخفى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بُعِثَ «في سنِّ الأربعين بعد أن اكتمل شبابه، وتهيأ للرسالة التي اختير لها، فالتفّ حوله الشباب من قريش، وأحجم عنه أولئك الرؤساء والشيوخ، لأنهم أنفوا أن يتبعوه وهو أقلُّ منهم سنًّا وجاهًا، {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[22][32]»[23][33].
وبداهة إنَّ اهتمام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشباب تمثّل في ممارسته العملية، قبل كلماته النظرية، والأمثلة على ذلك قد تطول، ويكفينا في هذا الصدد أن نستحضرَ حادثة تعيينه لأسامة بن زيد، وهو بعدُ لم يتجاوز الثامنةَ عشرة من عمره؛ قائدًا لجيوش المسلمين ضدَّ إمبراطورية الرومان، فأيُّ عناية هذه، أن تولِّي شابًّا على جيشٍ يحوي كبار الصحابة سنًّا ومكانة اجتماعية، ولكنها الحكمة النبوية التي تعطينا درسًا؛ لنفقه أن العبرة: بالكفاءة لا بالمرحلة العمرية، أو بالحسب والنسب. وإن كانت هناك مقاصد ومآرب أخرى من تأمير أسامة على جيش المسلمين، وفيه كبار الصحابة، لا ربط لها بموضوع بحثنا هنا.
يقول أحد الباحثين: «إن حساسيتنا نحن الكبار لنقد الشباب للنظام الاجتماعي، ورفضهم له وتمردهم عليه، لها ما يبررها من الناحية الإنسانية: فكل دعاوى الشباب تدين الأجيال السابقة، وأي تحول ينادون به لا يمكن أن يتم إلا على حساب مصالح «الكبار» والطريقة التي يعتمدون عليها في تحقيق ذلك تكشف عن كثير من جوانب القصور في الحياة.
ولكن الذين يرفضون على الشباب حق الاختلاف معنا في تقييم واقعهم، والأساليب المختلفة للتفاعل والتكيف معه، وتصور مستقبلهم واختيار طرق تحقيق أحلامهم وتحمل مسؤولياتهم فيه، يتناقضون مع أنفسهم، فقد طالبوا هم أنفسهم بهذا الحق في شبابهم وأصروا عليه»[24][34].
وجميل ما أشار إليه الدكتور فتحي يكن عندما قال: و«في منطق الإسلام لا يعني الاعتماد على الشباب إغفال دور الرجال والكهول أو إغماطهم حقهم أو الإقلال من شأنهم كما كان حال الشيوعية حين طالب أحد زعمائها بعد الثورة بإبادة جميع المسنين حتى لا يكونوا كلاًّ على الدولة»[25][35].
فالمنطق النبويُّ إذًا، يعمل على وضع الرَّجل المناسب في المكان المناسب، سواءً كان شابًا أو كهلاً.
ب– دعوة الشباب للمُشاركة في التفكير والتغيير:
قد ننشغل أحيانًا في التفكير بالطرق الأجدى من أجل تربية وتوجيه الشباب، وربما نغفل أنهم العنصر الأهمُّ في إيجاد الحلول للكثير من المشاكل والأزمات، ولذا من الأهمية بمكانٍ أن يشارك الشباب في عملية التفكير والتخطيط هذه، لرسم الآليات الكفيلة بتحقيق النجاح الملموس في واقعهم، ولا يصحُّ أبدًا أن نتشدَّق بالمكانة التي يضعُها الإسلام للشباب، ثم نمارس عليهم دورَ الوصاية، وهو سلوك مرفوض لديهم، ولا غرابةَ إن وجدتهم يستهجنون القائمين به؛ لأنهم يرون أنفسهم ذوات عاقلة ومحترمة؛ لديها القابلية للمُساهمة في تغيير الواقع، وربما بطريقة أجدى نفعًا من الطرق التي ينتهجها الجيل القديم.
«فشباب اليوم يعيش تغيرات تكنولوجية سريعة واجتماعية عميقة، فيصبح الماضي أكثر بعدًا عن الحاضر، كما أصبحت معايير وأنماط الحياة الماضية بعيدة عن الحاضر. من هنا نجد أن العلاقات بين الأجيال تزداد ضعفًا، وهذا يقود إلى اتساع الثغرة بين الآباء والأبناء ويقل تأثير الآباء على الأبناء، وتزداد المصاعب في أن يفهم أحدهما الآخر، فيرى الأبناء أن نظرة آبائهم قديمة، كما يرى الآباء بأن مواقف أبنائهم متحررة غير مقبولة، ومن هنا يبدأ الخلاف والصراع»[26][36].
وعلينا أن نفقه أن «بعض تمرد الشباب ورفضه صحي ومفيد، ويجب ألَّا نحاول قمعه، وبعضاً آخر منه مؤشر على أزمة، وربما تكون حادة، ويستدعي أن نتجه إلى الأزمة نحاول حلها بدلاً من أن نركز على التمرد وقمعه»[27][37]. لكيلا تتسع الفجوة بين الأجيال!
بالطبع، فحين نؤكِّد ضرورة إزالة العوائق عن طريق الشباب؛ لتطال طموحاتهم عنان السماء، فإننا لا نغفل أنَّ مرحلة الشباب هي مرحلةُ الغرور والاعتداد بالنفس، بصورة مبالغ فيها أحيانًا، لدرجة أن يتحدَّى شابٌّ إرادة الخالق، ليقول بغرور: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ المَاءِ}[28][38]. لذا علينا أن نمسك العصا من الوسط إن صح التعبير، لكيلا يطغى جانب على آخر.
ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة، إذ لم ينظر إلى الشباب بمنطق: {أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ}[29][39]، وإنما اعتمد عليهم في مهام جدُّ خطيرة، ومنها توليتُه مصعب بن عمير، لأمر تبليغ الإسلام في المدينة المنوَّرة، بالرغم من كونه شابًّا، فصغر سنِّه لم يحُل بينه وبين تولي مسؤولية كبيرة، في ظلِّ الرعاية النبوية، التي عملت بمبدأ: «الكفاءة أولاً»، وهذا مطلب كل العقلاء.
وفي لفتة قرآنية رائعة تُجلِّي هذا المعنى، وهو إعطاء المنصب بناءً على الكفاءة، بعيدًا عن المكانة الاجتماعية أو الثروة المالية، يقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[30][40]. فقوّة الشاب (طالوت) العلمية والجسمية، هي التي أهّلته؛ ليُختار ملِكًا عليهم، ومن ثمّ يتولى قيادة الجيش الذي واجه به (جالوت) وجنوده.
«ولا يختصّ ما زعموه بهم، بل كلّ ملأ إذا أعرض عن الحقيقة، وغفل عن قضاء الله وقدره، واقتصر على المحسوس الظاهر، يذعن بأمور هي مخالفة للواقع، ففي المقام إنّهم اقتصروا على الظاهر، وما اعتاد عليه الناس من أن الملِك إنمّا يكون ملِكًا إذا كان شريفًا من بيت العزّ والشرف، ذا مال يمكنه أن يؤسس ملكه عليه ويدبره به، وهما كانا منتفيين في طالوت ولذا اعترضوا على اختياره»[31][41].
وغفل قوم طالوت عن أن الله «أعطاه سعة في العلم وعظم الجسم، وهما صفتان ينبغي وجودهما في كلِّ ملِك وقائد، فإنّ بالأوّل يدير النظم ويدبر الأمور، وهما يتطلبان معرفة المصالح والمفاسد والعلم بخصوصيات الإدارة، فإنّ الملك عبارة عن تدبير الرعية واستقرار السلطة عليهم، بما يوجب وصولهم إلى الكمال اللائق بهم… ومن ذلك يستفاد: أنّه لا دخل للمال ولا للشرف في الملك، بل الملوكية الحقّة تستلزم إيجاد المال لتدبير الملك»[32][42].
خلاصة الحديث: إنَّ القرآن الكريم يرشدنا إلى أن الشاب المؤهل علميًّا وجسديًّا، بإمكانه أن يتبوأ مكانة قيادية في مجتمعه، لذا نحن بأمسِّ الحاجة للاهتمام بالجانب العلمي والمعرفي والوعي الديني عند الشباب، ليكونوا نعم العون لنا في عمليتي التوجيه والإرشاد، يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): «وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيءٍ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبّك»[33][43].
وأول وأحسن بذر ينبغي أن يُلقى في قلب الحدث المهيأ للقبول، هو بذر العلم والمعرفة -كما يرى الشيخ محمد تقي فلسفي- فالعلم «هو الجوهر الأساسي للسعادة والهناء.. العلم يعمل على نضج العقل وظهور الكمالات الإنسانية… العلم القاعدة الرصينة لكل المفاخر الإنسانية»[34][44].
ج– ضد سياسة الارتجال في التربية
المربي بحاجةٍ إلى أن يسلك طريقَ الاحتياط، وهو يمارس عمليةَ التربية، عبر سؤال واستشارة أصحاب التجارب والمختصِّين، بدلاً من أن يرتجل؛ طرقًا قد تَضُّر أكثر مما تُصلِح، فلا مجال في التربية للارتجال أو التهوُّر! وعلى المربي أن يعتمد في تربيته، قاعدة: «مفتاح العلم السؤال»؛ لكي يُحسن توجيه الجيل الشاب، لما فيه صلاحه.
فعندما نقرأ قول الحقِّ سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[35][45]، فإننا نفهم من ذلك أن «الإنسان مطالب شرعًا بأن يلتزم بالدين وتعاليمه كي ينقذ نفسه من نار جهنم، وفي نفس الوقت مطالب بذلك تجاه أهله، وعلى رأس الأهل الأبناء، بل لعلهم الحد المتيقن من الأهل هنا لأنهم أجلى المصاديق»[36][46].
ومنهجية الوقاية هذه لا بدَّ أن تسير وَفْقَ برنامج محكم؛ لتؤتي أُكُلَهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، خاصة ونحن على علم بأن القرآن الكريم، رسم للمؤمنين به، أفضل الطرق والأساليب التربوية، وما علينا؛ إلاّ أن نتقدّم إليه؛ لنبصرها.
فهل نجد أرّق من توصية القرآن الكريم واهتمامه بالوالدين، حيث يقول تعالى -مخاطبًا الشباب-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}[37][47]؟ فأيُّ عناية وأيُّ بلاغة، هذه التي يخاطب بها القرآن الكريم الشاب، لدرجة أن يوصيه، بألَّا يقولوا حتى كلمة (أُفٍّ) لوالديه؟
ويقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في ذلك: «لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لأتى بها»[38][48].
د– معونة الشباب في بلورة خياراتهم
الشباب بحاجة لمن يعينهم في تحديد مساراتهم المستقبلية، لا على سبيل الفرض، وإنما من أجل ترشيد عملية التفكير لديهم بطريقة واعية، فهذا نبي الله موسى (عليه السلام) يطلب من الخضر أن يعلمه مما علمّه الله -سبحانه وتعالى-، إذ يقول مخاطبًا إيَّاه: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[39][49].
فإذا كان موسى، وهو نبي من أنبياء الله -سبحانه وتعالى- يستعين بمن يعينه في أمره، بالرغم من أنه {لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتاهُ الله حُكْمًا وَعِلْمًا}[40][50]، فنحن إلى الإعانة والتوجيه أحوج؛ فالشاب منا قد يتخبط في قراراته، نتيجة للمرحلة المضطربة التي يمر بها، وما تفرزه من تقلبات في المزاج والقرار. إضافة لمحاولته تقمص الشخصيات الناجحة الأقرب إلى نفسه، فهو قد ينوّع في يومه وليلته بين عشرات الشخصيات التي لا يجمعها جامع مشترك؛ إلا النجاح والشهرة. لذا على المربين إعانة الجيل الشاب في بلورة خياراتهم الأقرب إلى أنفسهم وقدراتهم؛ لكيلا يكرروا تجربة الغراب الذي أضاع المشيتين بعد أن حاول يومًا تقليد الطاووس في مشيته.
«وإن لم نهتم بهذه المسألة، ولم نفسح المجال للشباب في ممارسة رغبته بلعب دور اجتماعي ضمن توجيه صالح، فستكون النتيجة أحد شيئين: إما أن تخمد طاقات الشاب، وتقتل مواهبه، وتدفن طموحاته.. وإما أن يبادر إلى ممارسة أدوار منحرفة، ويقوم بأعمال فاسدة»[41][51].
هـ– الحاجة للبرامج العملية
فليس من الصحيح أن نُركِّز على الأفكار النظرية الموجهة للشباب فقط، -وإن كنّا مقصرين في هذا الجانب أيضًا- إذ لا بد أن تصاحب الأطروحات النظرية الموجّهة للشباب برامج عملية تكفل انشغالهم وتملأ أوقات فراغهم؛ ليتمكنوا عبرها من صقل قدراتهم وإمكاناتهم، وبهذا نطمئن إلى أنهم سيسهمون في نماء مجتمعاتهم.
فالشباب في هذه اللحظة الزمنية، ملّوا من لغة (الينبغيات)[42][52]، وربما خفت تأثيرها في حياتهم وسلوكهم، فهم يتوقعون أن يجدوا أماكن تحتضن قدراتهم وإبداعاتهم، ومراكز تُنّمي مواهبهم، وفي أضعف الإيمان، يحتاج الشباب لتجمعات يمارسون فيها هواياتهم البريئة، إضافة لتشجيعهم على الانضمام للأندية الرياضية، والدورات الثقافية الموجهة، وهم بحاجة أيضًا للترويح عن النفس؛ بمشاركتهم في الرحلات الترفيهية الهادفة، و… إلخ.
وغني عن البيان؛ أن المجتمع -بمؤسساته المختلفة-، عندما يتنصَّل عن الإسهام في تحقيق هذه التطلعات، فلا عجب إن رأينا ازديادًا في: حالات التفسخ الأخلاقي، والسرقة، والعنف، إضافة للفوضى المصاحبة لجماهير المفحطين.
وللعلم «فقد ذكر في بعض التقارير أن من أبرز الدول التي تنخفض فيها نسبة الجريمة على مستوى العالم هي اليابان، وذلك لأنها من أبرز الدول التي تحتضن مؤسسات اجتماعية تُعنى بالشباب، ومن بينها مؤسسة يُطلق عليها «وحدة الإرشاد والتوجيه للشباب» تضم 126 ألف عضو متطوع. وكذلك «مؤسسة المرأة لإعادة التأهيل» تضم 320 ألف متطوعة. فكل مشكلة من المشاكل تجد لها مؤسسة متخصصة بدراستها وبوضع الخطط لمواجهتها وبالتحرك تجاهها، بينما لا يتجاوز الاهتمام عندنا مجال الحديث عن المشكلة دون أن نندفع باتجاه تأسيس المؤسسات واللجان المتخصصة لدراستها والبحث عن حلول»[43][53].
ختامًا أقول
لم تكن الغاية من هذه الورقة المختزلة؛ أن تقدِّم حلولاً سحرية لمشاكل الشباب، فتحدياتهم بحاجة لمعالجات طويلة المدى؛ لأنها تتعلق ببناء الإنسان، وعندما نطرح مقترحات معينة هنا؛ فإنها بحاجة لتكاتف الأيدي والخبرات، من أجل نقدها أولاً، وتحقيق ما يتناسب منها على أرض الواقع ثانيًا.
فما هي برامجنا المُعدّة للشباب؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل من أجلهم؟