تلخيص: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – ج 6 – ص 29 – 30
مفهوم الانتظار !
الانتظار : يطلق عادة على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإيجاد وضع أحسن . فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه ، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر ، فهما أي المريض والأب مشفقان ، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده ، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما .
وكذلك – مثلا – حال التاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط الاقتصادي . فهاتان الحالتان أي : الاحساس بالأزمة ، والسعي نحو الأحسن هما من الانتظار . فبناء على ذلك ، فإن مسألة انتظار حكومة الحق والعدل ، أي حكومة ” المهدي ( عليه السلام ) ” وظهور المصلح العالمي ، مركبة في الواقع من عنصرين : عنصر نفي ، وعنصر إثبات ، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر ، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن ! وإذا قدر لهذين العنصرين أن يحلا في روح الإنسان فإنهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال.
وهذان النوعان هما :
1 – ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد ، بل عليه أن يقاومها ، هذا من جهة .
2 – وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية ، من جهة أخرى.
ولو أمعنا النظر لوجدنا أن هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي . ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل ، ندرك بصورة جيدة معنى الروايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم ، وعندها نعرف لم سمت الروايات المنتظرين بحق بأنهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه ” عجل الله فرجه ” أو أنهم تحت لوائه ، أو أنهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه ، أو كالمتشحط بدمه ! . . . الخ.
مراتب الانتظار:
ترى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل ، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟ كما أن ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة ، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين ، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم ، فكذلك الانتظار وبناء الشخصية والاستعداد ، كل ذلك ليس في درجة واحدة ، وإن كان كل من هذه ” العناوين ” من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكل منهما جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات ، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنه مستقر في مركز القيادة ، وعند آمرية الحكومة الاسلامية ! فلا يمكن أن يكون إنسانا غافلا جاهلا ، فذلك المكان ليس مكانا لكل أحد وإنما هو مكان من يستحقه بجدارة ! فكذلك الأمر عندما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح ، فعليه أن يكون مستعدا بشكل كامل روحيا وفكريا وقتاليا .
– الانتظار يعنى الاستعداد الكامل: إذا كنت ظالما مجرما ، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين ؟ ! وإذا كنت ملوثا غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوثين ؟ ! والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة ، ويصلح نقاط الضعف فيهم إن وجدت ، لأن كيفية الانتظار تتناسب دائما والهدف الذي نحن في انتظاره. 1 – انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره . 2 – انتظار عودة حبيب عزيز جدا . 3 – انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل . كل من هذه الأنواع من الانتظار مقرون بنوع من الاستعداد ، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم ، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الأدوات والسلال وهكذا . . . والآن سنتصور كيف يكون انتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإنسانية مثيلا له ؟ الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة ، إذ هي غير محدودة بمنطقة ما ، بل هي عامة وللجميع ، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس ، فهي ثورة سياسية ، ثقافية ، اقتصادية ، أخلاقية .
– الحكمة الأولى ، بناء الشخصية الفردية: إن بناء الشخصية – قبل كل شئ – بحاجة إلى عناصر معدة ذات قيم إنسانية ، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإصلاحي للعالم ، وهذا الأمر بحاجة – أولا – إلى الارتقاء الفكري والعلمي والاستعداد الروحي ، لتطبيق ذلك المنهج العظيم . فالتحجر ، وضيق النظر والحسد ، والاختلافات الصبيانية ، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين . والمسألة المهمة – هنا – أن المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج مما أشرنا إليه آنفا ، بل لابد أن يقف في الصف الآخر ، أي صف الثائرين المصلحين ، فالإيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول ، لا يسمح له أبدا أن يكون في صف ” المثبطين ” المتقاعسين ، بل يكون في صف المخلصين المصلحين ، ويكون عمله خالصا وروحه أكثر نقاء ، وأن يكون شهما عارفا معرفة كافية بالأمور . فإذا كنت فاسدا معوجا فكيف يمكنني أن أنتظر نظاما لامكان فيه للفاسدين ؟ أليس مثل هذا الانتظار كافيا لأن أطهر نفسي وفكري ، وأغسل جسمي وروحي من التلوث ؟ !
– الحكمة الثانية ، التعاون الاجتماعي : إن المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتموا ببناء ” شخصيتهم ” عليهم ، أن يراقبوا أحوال الآخرين ، وأن يجدوا في إصلاحهم جدهم في إصلاح ذاتهم . . . لأن المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجا فرديا ، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية ، وأن يكون العمل جماعيا عاما ، وأن تتسق المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها . ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنبا إلى جنب ، لا يمكن لاحد منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشد أزرهم وأن يسد الثغرة ويصلح نقطة الضعف إن وجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها ، لأنه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعالة متسقة متناسقة ! فبناء على ذلك فالمنتظرون بحق عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإضافة إلى اصلاح حالهم . فهذا هو الأثر الآخر البناء ، الذي يورثه الانتظار لقيام مصلح عالمي ، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها ، المنتظرون بحق
– الحكمة الثالثة ، المنتظرون بحق لا يذوبون في المحيط الفاسد : إن الأثر المهم الآخر للانتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد ، وعدم الانقياد وراء المغريات والتلوث بها أبدا . وتوضيح ذلك : أنه حين يعم الفساد المجتمع ، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة ، فقد يقع الإنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي ، أو بتعبير آخر : في طريق مسدود ” لليأس من الإصلاحات التي يتوخاها ” . وربما يتصور ” المنتظرون ” أنه لا مجال للإصلاح ، وأن السعي والجد من أجل البقاء على ” النقاء ” والطهارة وعدم التلوث ، كل ذلك لا طائل تحته ، أو لا جدوى منه ، فهذا اليأس أو الفشل قد يجر الإنسان نحو الفساد والاصطباغ بصبغة المجتمع الفساد ، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقلية صالحة بين أكثرية طالحة ، وأنهم سيفتضحون إن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنهم ليسوا على شاكلة الجماعة . والشئ الوحيد الذي ينعش فيهم الأمل ويدعوهم إلى المقاومة والتجلد وعدم الذوبان والانحلال في المحيط الفاسد ، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي ، فهم في هذه الحال – فحسب – لا يسأمون عن الجد والمثابرة ، بل يواصلون طريقهم في سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإصلاحهم أيضا . وحين نجد – في التعاليم الإسلامية – أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر ، فقد يتعجب بعض الجهال : كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية ، حتى أنه أشد من سائر الذنوب الأخرى ، فإن حكمته و ” فلسفته ” في الحقيقة هو ما أشرنا إليه آنفا ، لأن العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئا ينقذه ويخلصه من عذاب الله ، فلا يفكر بإصلاح الخلل ، أو – يكف عن الذنب على الأقل لأنه يقول في نفسه : أنا الغريق فهل أخشى من البلل ؟ والنهاية الحتمية جهنم ، وقد اشتريتها ، فما عسى أن أفعل ؟ . . . وما إلى ذلك . إلا أنه حين تنفتح له نافذة الأمل ، فإنه سيرجو عفو ربه ، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله ، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه إلى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإصلاح . ومن هنا يمكننا أن نعتبر أن الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاس
ومن هنا يمكننا أن نعتبر أن الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين ، كما أن الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إذا لم يكن لهم أمل بالانتصار على المفاسد .
والنتيجة أن معنى انتظار ظهور المصلح ، هو أن الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر ، والانتظار يكون له أثر نفسي كبير ، فيضمن للنفوس القوة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد.