– الافتتاحية:
قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)) سورة يوسف.
عندما ينظر الانسان في قراءة تحليلة إلى مجمل آيات القرآن الكريم، لا يعدو نظره الكمّ الكبير من الآيات التي تركز على قَصص الأقوام الماضية، وكأنّ المولى يريد منّا أن نكرر أو لا نكرّر ما قاموا به؛ بأن يكون التكرار نحوٌ من الاقتفاء لما اُثر عن الأقوام السابقة في جوانبه الايجابية، وأن لا نكرر..!! ما وقعوا فيه من أخطاء ومن سلبيات في طريقة حياتهم ومعالجاتهم للأمور.
وهذه المعالجة القرآنية لقصص الأولين ما هي إلاّ إرشاد إلى نكتة مهمة جدا لا ينبغي للانسان المؤمن أن ينفصل عنها، وهي ما يحكية المولى -عزّ وجل- في قوله تعالى: (لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)، وهي تحكي معادلة (التفكّرï القصص= العبرة)، كي لا تكون قراءتنا للماضي قراءة استهلاكية، بل قراءة يغلب عليها التحليل والمحاكاة. ذلك أنّ الاستهلاك لا يبني مستقبلا، لعجزه عن صنع الرجال، ولأنّ اللهو والتسلية لا يبني الشموخ والعزّة للأمّة.
إذن قراءة الماضي قراءة ضرورية لا غنى لنا عنها، لما تقدمه من عناصر تساهم في تقويم حياتنا وإصلاح أمورنا، من خلال محاكاة صادقة وواقعية لحياتنا المعاشة.
– الهدف من الاحياء لذكراهم (F):
من ذلك كله.. يمكننا أن نقول إنّ احياءنا لذكرى أهل البيت ما هي إلاّ نحوٌ من تتبع القصص، في محاولة منّا لاستلهام العبر من خلال ما عاشه هؤلاء الكبار.
وتمتاز قصص أهل البيت (F) عن غيرهم بميّزة تفتقدها قصص أخرى، وهذه الميّزة تكمن في أن شخصياتهم شخصيات معصومة من قبل الله، وحركاتهم، وسيرهم، سير وأدوار رسمها الله سبحانه وتعالى، لا تحتمل الخطأ.
– مع الابطال(F) في شخصياتهم:
وإذا جئنا إلى الامام الحسين (D)، وأبي الفضل العباس(D) والإمام زين العابدين(D)، وحاولنا أن نقوم بالمعادلة التي استخلصناها، وهي معادلة التفكر في قصص الأولين لاستلهام العبر، سنجد أنّ حياة هؤلاء.. حياة تزخر بالكثير من العبر التي يمكن أن نقوم باسقاطها على واقع حياتنا المعاصرة، وفي جوانب شتى ومتعددة.
فأوّل أمر بارز تتميز به هذه الشخصيات، السمو في العلم والمعرفة، وارتقاء في الاخلاق قلّ نظيره، نستخلص منها ضرورة العلم والتعلم في بناء شخصياتنا، والذي يجب أن لا يكون بمعزل عن أخلاق عالية في التعامل مع الناس.
وهنا نقول أن التأكيد على العلم والأخلاق باعتبار أن العلم هو الذي يصنع المعرفة، وأن الأخلاق هي التي تقدّم الوعي الاجتماعي، ولا يخفى أنّ امتلاك هاتين الأداتين، تمكننا من أن نصنع الوجود المقبول والملائم لشخصياتنا الاسلامية.
والجانب الآخر الذي تتميز به هذه الشخصيات هو البناء الإيماني الروحي الصلب، ولا يخفى عليك ما أُثر عن الإمامين الحسين وابنه السجاد (H) من موروث في الأدعية يعكس مدى الروحية العالية والكاملة التي يتمتع بها الائمة (F)، وعلى طرف آخر نجد كلمة للإمام زين العابدين (D) عن عمه العباس (D) تحكي لنا ما كان يتمتع به من صلابة في الايمان والروح، حيث يقول (D) عنه: (كان عمّي العباس بن علي (D) نافذ البصيرة صلب الايمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاء حسنا، ومضى شهيدا..).
– معهم (F) في واقعة كربلاء:
أما الجانب الثالث الذي نتوقف عنده قليلا هو ما جسّدته هذه الشخصيات في واقعة كربلاء، وما قدمته لنا من افرازات وعِبر.
فهذا العباس (D) يقف مع أخيه الحسين (D) وقوف الرجل الذي لا يهاب الموت ولا يخشاه ما دام ذلك في سبيل الله سبحانه، ولعل أبرز ما يحكي لنا صلابة موقفه، موقفان:
الاول: حينما رفض العباس(D) الأمان الذي قدّمه الشمر (لعنه الله) له ولإخوته، حيث أجابه هو وأخوته: (لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن بنت رسول الله (7) لا أمان له…) وولّى الخبيث خائبا، فقد ظن أن السادة الأماجد إخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان، ولم يعلم أن إخوة الحسين (D) من أفذاذ الدنيا، الذين صاغوا الكرامة الإنسانية، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان.
الثاني: من خلال الأبيات التي كان يرددها في عراكه مع الاعداء وهي:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا * حتى أواري في المصاليت لقى
إني أنا العباس أغدو بالسقا * ولا أهاب الموت يوم الملتقى
والله إن قطعتم يميني * إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام صادق اليقين * نجل النبي الطاهر الأمين
وهذه الابيات تجسّد الوعي الذي كان يمتلكه، وليست المسألة حركة أخ مع أخيه على قاعدة العرب (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب)، بل حركة انسان مؤمن، يتحرك مع الضوابط الايمانية في كل حركة، لتكون جميع الحركات محكومة للشريعة السمحاء.
وفي خلال هذين الموقفين لعلك وقفت مع حجم شخصية العباس (D) في وعيها وايمانها وحركتها، ولعله أمكنك ما يمكن أن تقتدي به، وتجعله مبدأ نصب عينيك، وهما أمران:
- امتلاك صلابة الايمان التي تصمد في التعامل مع مختلف الظروف، عند الاغراءات المادية والمالية وعند فقدها، وعندما يتطلب الامر أن تجود بأغالى ما تملك (وهي النفس).
- أن تكون حركاتنا محكومة إلى مبادئ من صنع الله وجعله، لا من صنع الاهواء والشيطان.
ثم ننتقل إلى الامام الحسين (D)، في موقفين:
الأول: في مناشدة طويلة له (سلام الله عليه) للعسكر قال فيها:
قال: أنشدكم الله هل تعرفوني؟ قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله (7)؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة اسلاما؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة عم أبي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله وأنا متقلده؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن عليا كان أولهم إسلاما وأعلمهم علما وأعظمهم حلما وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فبم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض غدا يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدي يوم القيامة؟ قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا. وأجاب البعض حقدا لأبيك.
وهنا برزت العصبية التي تؤدي بصاحبها إلى ركوب الجهل والباطل.
الثاني: لمّا وقع السهم في نحر الرضيع وهو في كفيه، جعل كفّه يمتلئ من الدم ثم رماه إلى السماء وقال: (هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله). وهو بهذه الكلمات قد زرع روح التضحية والفداء في النفوس.
وبعد هذين الموقفين ننتقل إلى دور الإمام زين العابدين (D)، حيث ظن يزيد وابن زياد أنهم يستطيعون بأدواتهم الاعلامية أن يحرفوا مسيرة الإمام عن خطها، لتكون مسألة الحسين (D) مسألة عادية جدا، وما هي إلا خروج خارجي على الأمير المفروض الطاعة وقد قام الامير بقتله وسبي نسائه، ولقد دأب النظام الأموي في محاولة جادة لزرع هذه الفكرة التي نراها تتجلى بين فترة وأخرى في أنفاس اتباعهم إلى يومنا هذا.
وتمثلت الخطوات العملية لهذه السياسة فيما يلي:
- سحق جسد الإمام الحسين (D) وأصحابه بحوافر الخيل، وتركهم من دون مواراه لتأكلهم سباع البر، فيتخلصوا من الأجساد الطاهرة، ويعدموا الأثر وكأن شيئا لم يكن.
- أخذ النساء تحت عنوان السبايا، وهذا العنوان يعني أن رجال هؤلاء النساء في حكم الكفار.
- منع الناس من زيارة قبر الحسين (D).
كلّ ذلك في محاولة حثيثة لإضعاف الموقف، وحرف القضية عن مسارها، ولكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل، لأنّ الامام لم يغفل عن هذه الجنبة، فكان دور العقيلة زينب (J) والامام زين العابدين (D) مؤثرا في توضيح القضية في أبعادها وأهدافها، ومظلومية الحسين (D)، لينقلب الرأي العام، ولتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، وينبعث الامل الجديد، وذلك من خلال الإحياء الجديد لدين الله، وبعث الروح في همم الأجيال لتنخلق أجيال وأجيال ترفض الظلم والباطل، وتفهم الدين فهما ناضجا.
من كل هذه المواقف لم يعد خفيا عليك كيف تجسدت هذه المواقف كلها فيما حدث مؤخرا في حرب الكيان الصهيوني على لبنان، كيف عاشت المقاومة وقائدها سماحة السيد حسن نصر الله(>) معها، وكيف كان الموقف من الاطراف الاخرى.
وجدنا اطرافا عبّرت عن المقاومة بأنّها مغامرة..!! و بحرمة الدعاء لحزب الله..!! وببرقيات تأكييد لإسرائيل من تحت الطاولة..!! وكأن الامر غائم وليس بواضح، حتى غدت اسرائيل صديقا حميما لهم.
ليس الأمر كذلك.. وإنما هو من ذاك..، فهم يعلمون أنّ حزب الله هو حزب اسلامي مأة في المأة ولكن وكما قالوا للحسين “حقدا منا لأبيك” قالوها اليوم لحزب الله “حقدا منا لأتباع محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (F)”.
لتكون الاجابة عليهم من السماء (قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(13)) آل عمران. وعدنا بذلك للعبرة.
ولتجيبهم كل الامهات في لبنان بما أجاب به الامام (D): “هونّ علي ما نزل بي أنه بعين الله” فلم نجد الامهات والآباء.. والفاقدات والثكالى..، إلا محتسبة في ذلك كلّه لله لتتجسّد لنا صورة من صور كربلاء، بل وجدنا الكثير من اللبنانيين يربطون ما حدث لهم بما حدث للحسين (D) وأصحابه في كربلاء.
ثم وبعد الحرب نجد من ينعق مع كلّ ناعق، محاولا أن يحرف المسيرة عن خطها، وليحوّل الانتصار إلى هزيمة، وهنا لابد أن يبرز لنا دور، وأن يكون لأدوات الاعلام الصادقة وهي نادرة دور في مواجهة ذلك، لنستخلص أكبر قدر ممكن من العبر والموعظ مما حدث وسيحدث. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)) سورة يوسف.