قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران 169

عندما ينظر الإنسان الى قيمة الشهادة في الإسلام يجدها ذات قيمة عالية, ولايكاد يوجد عمل يجزى بمثل ما يجزى به الشهيد في سبيل الله. ولعل ذلك يعود الى غلاء ما يقدم في سبيل الله، فالنفس أغلى ما يملكه الإنسان ، فالأموال والأمور الدنيوية الأخرى يمكن للإنسان أن يجد لها بديلا وعوضا، ولكنّ النفس ليس لها بديل، ومن ذلك كان الجزاء متناسبا مع غلاء ما يقدم، ولكن لا تكون النفس غالية نفيسة عند الله إلا إذا بذلت خالصة له وفي طريقة وسبيله الذي رسمه لعباده(قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

وبملاحظة ذلك نكتشف أنّ الميزان الذي يزن به الله قدر الأعمال يعتمد على مقدار خلوص هذه الأعمال له سبحانه فنقرأ في ذلك فيما ناجى الله تبارك وتعالى موسى (ع) :يا موسى ما أريد به وجهي فكثيرٌ قليله- أي كثير عندي قليله- ، وما أريد به غيري فقليلٌ كثيره)[ميزان الحكمة] ، فكثرة الأعمال إذا افتقدت لعنصر الإخلاص لله افتقدت القيمة والنور الذي يمنحه الله لها.

فلذلك نجد أن بعض أعمالنا لا تظفي بنورانيتها على النفس رغم محتواها الخيّر الحسن..؟! ولو عدنا وفتشنا في سبب ذلك سنجد أن تلك الأعمال قد تداخل الرياء معها في بعض تفاصيلها، أو قد عشنا السمعة أو العجب في جزء بسيط منها مما أضعف نورانيتها أو ربما أطفئها.. .

ثورة الإمام الحسين (ع) كم هي ممتلئة بالنور والنورانية، وذلك لأنّها بكل تفاصيلها وحيثياتها مرتبطة بالله- عزوجل- بأعلى درجات الخلوص لله،من بدايات حركته إلى أن خرّ صريعا -بأبي وأمي- .

فلنتابع قليلا حركة الإمام في هذا الجانب، لنكتشف مدى خلوصها لله :

  •  الحركة من أجل الشهادة :

عندما همّ الإمام الخروج من مكة متوجها الى الكوفة جاءه من ضمن من جاء، أخوه محمد بن الحنفية مشيرا عليه بالتريث وعدم الذهاب الى الكوفة خشية أن يغدروا به وليبقى في الحرم أو يخرج إلى اليمن فوعده الإمام أن ينظر فيما قال ولكن تفاجأ ابن الحنفية في اليوم التالي بعزم الحسين على الخروج فقال للإمام: ألم تعدني النظر فيما سألتك فأجابه الإمام: بلى ولكن بعدما فارقتك أتاني رسول الله وقال يا حسين أخرج فإنّ الله تعالى شاء أن يراك قتيلا ، فقال إذن لم حملك هذه النسوة فقال (ع): شاء الله أن يراهنّ سبايا. [مقتل الحسين للمقرم]

لو إلتفتنا الى كلمات الإمام في حديثه مع أخيه, يتبين لنا كم كان الإمام مدركا لملابسات الموقف واحتمالاته ، فجوابه يؤذن أنّه (ع) كان يقرّب احتمال الخذلان على غيره من الإحتمالات، لاسيما إذا ضممنا لكلامه هذا كلمات وخطب أخرى ينعى فيها نفسه ويستنهض المؤمنين على السير معه لطلب الشهادة ولقيا الله، ليغدو الدافع الأرجح لتحرك الإمام هو الشهادة في سبيل الله في محاولة منه (ع) في إحداث صدمة في المؤمنين توقظهم على كلّ الأخطاء التي تمارس ضدّ الشريعة والإسلام، ولبيان نور الحقيقة والحق ويتمايز عن الظلم، وليرتفع التضعيف الذي نالته عقيدة الولاية لأهل البيت، هكذا أراد وهكذا كانت النتيجة فبقي الحق محفوظا عبر التاريخ ببركة ثورة الحسين(ع).

  • الحسين جديلا :

عندما استخرج الإمام الحسين (ع) السهم المثلث من القفا انبعث الدم بغزارة فأخذ الإمام يملئ كفه فلما امتلأت يده رمى به نحو السماء وقال : هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض… . [مقتل الحسين للمقرم]

هكذا هو سلام الله عليه – فبعد أن بذل جميع أولاده وأصحابه وأهل بيته – يبذل نفسه، وكلّ ذلك لله عزّ وجل، فكم هي عظمة الإمام عندما نجده لا يستغرق في جلل مصابه بأهله وإنّما يستغرق في حب الله وأن يكون ذلك لله، لتحلق روحه في ذات الله مخلصة ، فكم هي عظيمة هذه الكلمات الأخيرة منه (ع) والتي تعبّر عن العلاقة الخاصة التي تربط المعصوم بالله ، فالمحافظة على الإتزان والتوازن بعدما تصاب بكل ذلك لهو أمر صعب مستصعب، فنحن نرى أنفسنا نفقد التوازن عندما نصاب بابتلاء لا يقارن بابتلاء الإمام، ولكن الإمام صبر رغم كلّ ذلك وأطلق كلماتٍ وكأنّه يريدنا أن ندرسها وندرس الحيثيات ومقدمات السير التي أنتجتها، فخلوص العمل يكوّن العلاقة بالله حتى ترى الله حاضرا معك في كلّ شيء.

وهكذا فلنحاول أن نكون مخلصين لله ، لتكون أعمالنا مرتبطة بالله وفي سبيله ، فتكتسب شعاعا ونورا من أشعة ونورانية الذات المقدسة .