اشتملت ثورة الإمام الحسين (ع) على العديد من المفاصل المهمة، التي يمكن لكل السالكين على درب الطاعة لله أن يستلهموا منها العديد من النفحات الطيبة التي تنير دروبهم وتسدد خطاهم، ونحن نذكر الآن أهم مفاصل ثورة الإمام (ع):

بداية العصيان برفض البيعة ليزيد:

المبايعة تعني المعاقدة والمعاهدة، وبهذا المعنى تستعمل عندما نقول قد بايع الشعب حاكمه، أي قد تعاقد وتعاهد معه بقبول حكمه ورئاسته، ومن هنا فإن المبايعة تعدّ المقوم الأساسي في حكم الحاكم لرعيّته، إذ من خلالها تبتني علاقة الحاكم بالمحكوم.

ومن هنا بدأت حركة الإمام الحسين (ع) في مواجهة حكم يزيد بن معاوية، إذ بمجرد أن هلك معاوية، بعث يزيد كتابا إلى الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك بمضمون في غاية الصراحة والشدة، يأمره بأخذ البيعة من ثلاثة أشخاص فقال: “خذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا (عنيفا) ليست فيه رخصة حتى يبايعوا فمن يأبى عليك منهم فاضرب عنقه”.

ولا ينبغي لك عزيزي القارئ أن تمر سريعا بكلمة: ” أخذا شديدا (عنيفا) ليست فيه رخصة” من دون أن تتفحص في دواعي استعمال هذا التعبير الشديد؟!

إنّ هذا التعبير يعطي أن يزيدا كان مهتما بحسم أمر البيعة مبكرا، وبالخصوص من هؤلاء الثلاثة، وبالذات الإمام الحسين (ع) عندما ذكره أولا وعندما اهتم بتصفيته أولا، وبعدم التأخر في الأمر لأن عنصر الوقت قد يقض مضاجع الحكم الأموي، ولأن البيعة من هؤلاء تعطي شرعيّة لحكم يزيد وعدمها يسلب حصة كبيرة من شرعية الحكم بل يسلبها كلّ الشرعية إذا كان الممتنع عن المبايعة مثل الإمام الحسين (ع).

ولكن الإمام الحسين (ع) لم يعطِ يزيدا ما أراد، فقام بتسديد أول سهم في كبد الحكم الأموي من خلال رفض المبايعة ليزيد، بل وتحريك الناس نحو رفضها أيضا.

فعندما سطّر الإمام كلماته قائلا “ومثلي لا يبايع مثله” أراد من خلال المقايسة هذه تبيان عدم لياقة يزيد بتولي سدة الحكم، وهذا لا لأن الإمام (ع) يعيش حالة من العداء الشخصي تجاه يزيد كشخص، بل خوفا على الإسلام والشريعة التي أراد الله لها أن تحكم العالم إلى يوم الدين.

فيمكن إذن أن نقول إنّ أول خطوة عملية خطاها الإمام الحسين (ع) في مواجهة الحكم الأموي هي: رفض المبايعة التي تعني المعاقدة، وبسلب المعاقدة عن حكم يزيد انتفت شرعية حكمه وإن حكم بعد ذلك بالسيف والنار.

استنهاض الأمة:

بعدما رفض الإمام (ع) مبايعة يزيد بالمدينة، خرج تلقاء مكة المكرمة، وكانت خيارات الإمام الحسين (ع) في حركته محدودة جدا بحسب ما يتبنّى من مبادئ وضوابط شرعية تحكم حركته وتقيدها، ولذلك كان يعلم من حين خروجه من المدينة أن حركته هذه هي حركة نحو الشهادة، وما يدلل على ذلك ما قاله له جده (ص) في الرؤيا عندما جاءه مودعا: “حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرمّلا بدمائك، مذبوحا بأرض كرب وبلاء، من عصابة من أمتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قدموا علي وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة”.

فمن الغريب جدا ما يردده البعض من أن الإمام (ع) لم يكن ذا بدء متحركا نحو الشهادة وإنما الخيارات انعدمت بعد ذلك؟!

ولربما تسأل إذن لماذا تحرك الإمام الحسين (ع) لمكة المكرمة؟!

إن توجه الإمام الحسين (ع) لمكة كانت محاولة منه (ع) للالتقاء بالناس ومحاولة استنهاضهم للثورة ضد يزيد، فتجد أنّ الإمام قد سجّل كلمات في غاية الوضوح والسطوع، ليتم بها البرهان وتبلُغ الحجة عندما نعى نفسه مقتولا فقال: “وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم..، من كان باذلا فينا مهجته، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله “.

وهذه الكلمات جديرة بأن تهز كيان المؤمن وذلك أنّ ابن رسول الله (ص) ينعى نفسه قتيلا ويطلب النصرة، ولكن لم تلقَ دعوة الإمام صداها المطلوب ولعل ذلك يعود إلى أسباب عديدة من ضمنه:

أن الخلاف على الخلافة أدير من قبل معسكر يزيد على أنّه خلاف شخصي بين يزيد والإمام الحسين (ع)، على مبدأ يزيد سلطان؟ والحسين (ع) سلطان؟ ومالكم والدخول بين السلاطين.

ولعل الإمام عندما قال في خطبته: ” رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (ص) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده”.

أراد الإمام من القرن والجمع بين رضا أهل البيت (ع) ورضا الله وأنّهما يدوران معا، أن ينبه الغافلين أن الحسين (ع) عندما يتحرك يتحرك رضا الله معه، ولا نحتاج إلى مؤنة وعناية زائدة كي نكتشف أن معسكر الحق هو معسكر الإمام الحسين (ع)، ذلك أنّ الحسين (ع) يتحرك وفق الإرادة والمشيئة الإلهية.

كما وأن التشهير بما كان يفعله يزيد من موبقات وكبائر، كان يصب في خندق تحريض الغيرة على الإسلام في نفوس المؤمنين، وكذلك كان التأكيد دوما على أن سبب الخروج عليه إنما لطلب الإصلاح، هو أيضا لتحريك المشاعر الإيمانية، التي فعلا تحركت ولكن بعد مقتل الإمام الحسين (ع)، وكأنها طلبت دم الحسين (ع) ثمنا للتحرك والنهوض، وهذا حال العديد من الحركات الثورية في العالم فإنّها كثيرا ما تطلب دما زاكيا طاهرا لا يُختلف على مظلوميته ثمنا ومهرا لحركتها وثورتها، وهذا أمرا قد تعلّمته الحركات من ثورة الإمام الحسين (ع).

إسالة الدم والشهادة في سبيل الله..

إن شعار “إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني” الذي أصبح شعارا لثورة الإمام، يعكس لك المرحلة الأخيرة التي وصلت لها ثورة الإمام (ع)، فهي وصلت إلى مرحلة بذل الدم في سبيل الله، لتتسطر به ملحمة الخلود والقدوة لكل الثائرين لله، فالمعركة التي دارت؛ هي معركة بحساب المادة كان يزيد المنتصر فيها، ولكن بحساب المعنى والروح كان الحسين وأنصاره هم الخالدون فيها، في صفحات النور والإشراق، ويزيد قد سطّر في صفحات العتمة والظلام.

هكذا هي لغة الدم التي يشير لها الله في محكم كتابه: ” وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) آل عمران. لنكتشف نحن أيضا أن حياتهم وخلودهم ليس عند الله فقط وإنما في حياتنا الدنيا أيضا.

ولا خلود كخلود دم الحسين (ع) وأنصاره، ولعل ذلك يعود لكبر الشخصيات التي قدمت الفداء لله، فكلما كانت الروح والنفس الباذلة والمستشهدة نفسا زكية طاهرة كلما اكتسبت خلودا دنيويا وأخرويا أكبر من غيرها. لتجد بعد ذلك ثورة الحسين (ع) ما زالت باقية ولظة حية في نفوس المؤمنين وكأنها حدثت من وقت قريب وكأن لم يمر عليها أكثر من ثلاثة عشر قرن، فتجد الباكي والنائح يبكي وينوح وكأنه ينظر إلى شمرا وهو واقف يهبر أوداج الحسين (ع).

فمقتل الإمام (ع) كما قال النبي (ص): “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا”.