وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
يسعى الإنسان دوما للوصول إلى الحقيقة والحق، فالحق ضالة المنصفين، ورجاء السائرين على درب الله سبحانه، والحقيقة غالبا ما تكون ضائعة يحتاج الإنسان أن يبحث عنها أينما كانت، ويضاف لضياعها تعقيدا يتمثل فيما يضيفه الشيطان من إغواءات عديدة، فهو يمارس دوره الذي نطق به من أصل الخلقة: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).
التزيين اسلوب مهم يقوم به الشيطان من خلال الالباس والتشويه للحقيقة وتجميل الباطل بأقنعة براقة جميلة.
وهذا الدور وهو دور التزيين ربما يقوم به الشيطان نفسه، وربما يقوم به أعوان الشيطان من الجن والإنس، إذ أن للشيطان مدرسة يتخرج منها الطلبة بدرجات متفاوتة، فمنهم من يحصل على الدبلوم ومنهم من يحصل على البكالوريوس ومنهم من يحصل على أعلى الدرجات وأرقاها، والأسلوب الأوحد بين هؤلاء الطلبة أسلوب التزيين والتشويه للحق والإلباس الذي ينهى عنه المولى عز وجل (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42).
فأصبح طلب الحق، بسبب هؤلاء طلب للإبرة في كومة القش.
ولا شك أنّ الانسان المنصف يسعى دائما لمعرفة الحقيقة في الواقع الذي يمتلئ بالكثير من الحجب والموانع التي قد تحول دون الوصول إلى الحقائق، فالباطل لا يقول ها أنا ذا باطل؟! فلو كان الامر كذلك لما وجدنا الكثير ممن كنّا نرجوهم معنا كانوا على النقيض في الطرف الآخر.
وهنا لا نريد أن نعالج مشكلة المعاندين والمنكرين، فهؤلاء مشكلتهم تكمن في عنادهم واصرارهم على الباطل، إذ يعتقدون أن صلاح أمرهم وبقاؤهم في مواقعهم لا يكون إلا بتمسكهم بالباطل. فهم قوم طلبوا الباطل وأصابوه.
ولكن المشكلة فيمن نرجو منهم الانصاف والحق فلا يكونون كذلك، فهم طلبوا الحق فأصابوا الباطل، فما المشكلة مع هؤلاء وما هي الموانع التي حجبتهم دون الحق؟!
واستيفاء الحديث عن كل الموانع والحجب بحاجة إلى وقفة طويلة، ولكن بما أنّنا نعيش في ذكرى وفاة أمير المؤمنين (ع) دعونا نقف مع بعض كلمات له تعالج النقطة التي أثرناها.
قد يتعب الإنسان ويشعر بالتعب وهو يسير في هذه الدنيا طالبا للحقيقة التي ينشدها ويرجوها، فيقوم بطريقة سهلة جدا تعتمد على قياس الرجال لا قياس الحق، فيقول هذا الرجل العالم الفاهم من قضى أيام وهو بجنب الحق يستحيل أن يزيغ عنه فإذن الحق معه؟
هذه الطريقة طريقة يلجأ لها السواد الأعم من الناس، فهل هذا الطريقة صحيحة أو لا؟
الكثرة والقلة..
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13). (وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) قوم نوح. (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103). وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) يقول أمير المؤمنين (ع): لا تستوحشوا الطريق لقلة سالكيه.
– الطريقة مع الشخصيات المعصومة:
ان تتبع هذه الطريقة مع الشخصية المعصومة من الخطأ، فإنها تؤدي بك للوصول للحق بلا ريب، إذ يقول الله عز وجل:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) ويقول: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
ويقول النبي الأعظم: (علي مع الحق والحق مع علي، والحق يدور حيثما دار علي).
فالحركة من الشخص للحق في الشخصيات المعصومة طريقة صحيحة مائة في المائة.
– الطريقة مع الشخصيات الأخرى:
هل تنفع الحركة من إلى الشخصيات ثم إلى الحق، أو لا في غير الشخصيات المعصومة؟
المشكلة في الشخصيات غير المعصومة أنها شخصيات لا تمتلك العصمة وبالتالي مهما امتلكت من مقومات كبيرة إلا أنها لربما تخطأ.
وعندئذ بدلا من أن تصل بك هذه الشخصية للحق تصل بك إلى الباطل.
وهنا يأتي دور أمير المؤمنين (ع) فيقول: لما قال له الحارث: ما أرى طلحة وزبير وعائشة احتجوا إلا على حق -: إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس.
وهنا الامام (ع) يحذر من الطريقة التي قد درج عليها الكثير للوصول للحق، وهي طريقة تعتمد على التركيز على الشخصيات وجعلها ميزانا للتمييز بين الحق والباطل، فما تؤمن به هذه الشخصيات هي الحقائق وما لا تؤمن به هو الباطل، وهذا المقياس واضح البطلان إذ لا يمكن أن نغفل الحقيقة التي يحكيها القرآن (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فالغواية قد تحصل إلى أي شخص مهما كان وفي أي وقت كان.
فلذلك لا تجعل الشخص ميزانك العقلي للتمييز بين الحق والباطل، نعم هذه الطريقة تنفع وكما يقول المولى سبحانه عن لسان الشيطان (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) فهي تنفع مع الشخصية المعصومة لأنّها هي التي تمتلك الحقيقة المطلقة، فلذلك صح قول النبي الاكرم (ص): (علي مع الحق والحق مع علي، والحق يدور حيثما دار علي).
أما غير الشخصية الغير معصومة فلا يصح معها هذا القياس فلذلك قال علي الحق لا يعرف بالرجال، فإذن ما هو المقياس الصحيح؟
المقياس الصحيح هو كما يقول علي: ولكن اعرف الحق باتباع من اتبعه، والباطل باجتناب من اجتنبه.
بآية حق، واعرف الحق تعرف أهله.
هذا هو المقياس الصحيح الذي يتحدث عنه علي (ع) .
وهو مقياس قد ضمن الله المحافظة عليه بقوله تعالى:(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.. (18) الانبياء
فالحق يمكن تمييزه عن الباطل تماما إذا لم يكن الشخص من المعاندين. ومما يستحق الانتباه أن جملة ” نقذف ” من مادة (قذف) بمعنى الإلقاء، وخاصة الإلقاء من طريق بعيد، ولما كان للقذف من بعيد سرعة وقوة أكثر، فإن هذا التعبير يبين قدرة انتصار الحق على الباطل. وكلمة “على” أيضا مؤيدة لهذا المعنى. وجملة “يدمغه” على قول الراغب كسر “الجمجمة والدماغ”، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحق غلبة واضحة قاطعة. والتعبير ب (إذا) توحي بأنا حتى في الموارد التي لا ينتظر ولا يتوقع انتصار الحق فيها، فإننا سنجري هذه السنة. والتعبير ب “زاهق” والذي يعني الشئ المضمحل، تأكيد على هذا المقصود. وأما أن جملتي (نقذف) و(يدمغ) قد جاءتا بصيغة الفعل المضارع، فهو دليل على استمرار هذه السنة. (الامثل)
قبول الحق:
بعدما تعرف الحق تأتي مرحلة القبول بالحق والإذعان به مهما كان مصدره يقول رسول الله (ص): اقبل الحق ممن أتاك به – صغير أو كبير – وإن كان بغيضا، واردد الباطل على من جاء به من صغير أو كبير وإن كان حبيبا.
ثقل الحق:
إعل أن الحق في زحمة هذه الحياة لن يكون سهلا وولاية أهل البيت (ع) حمل ثقيل تثقل به الظهور الرجال الصلبة. ولكن إياك أن تترك الحق، فمن ترك الحق ذل ومن تمسك به نجا.
– يقول الإمام العسكري (ع): ما ترك الحق عزيز إلا ذل ، ولا أخذ به ذليل إلا عز.
– عنه (ع): المغلوب بالحق غالب.
– الإمام الصادق (ع) – وقد استفتاه رجل من أهل الجبل فأفتاه بخلاف ما يحب، فرأى أبو عبد الله الكراهة فيه: يا هذا اصبر على الحق، فإنه لم يصبر أحد قط لحق إلا عوضه الله ما هو خير له. – الإمام علي ( عليه السلام ) : اعلموا أن الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلون ، فلا تزولوا عن الحق وولاية أهل الحق ، فإن من استبدل بنا هلك وفاتته الدنيا وخرج منها [بحسرة]