ينظر الإنسان إلى مجمل حياته، ويُخضع تعامله مع جزئياتها وتفاصيلها، على وفق معيار القيمة والثمن، فمتى ما كانت مفردة ما تتمتع بقيمة عالية تمتعت في النتيجة بكل العناية والاهتمام.

والنظرة هذه من حيث المبدأ لا مشكلة فيها، وإن كنا سنختلف في تطبيقاتها على بعض المفردات هنا أو هناك تبعا للاختلاف في القناعات والمكونات الدخيلة في رفع قيمة الشيء أو وضعه. فمثلا ترى الإنسان الذي يجعل الدنيا أكبر همه يرى المال هو القيمة العالية في الحياة، بينما تجد آخر يعيش التوازن بين دنياه وآخرته، قد جعل للمال مساحة لا تتعدى كونه أداة للتعامل ولتحصيل الملذات المحللة التي لا يضر الاشتغال بها بدينه ولا بآخرته، وفي هذا الإطار يعظ لقمان الحكيم ابنه قائلا: (يا بني لا تدخل في الدنيا دخولا يضر بآخرتك، ولا تتركها تركا تكون كلاّ على الناس).

  • قيمة الوقت:

وعندما ننظر لهذه الفكرة فكرة ” الإهتمام بذو القيمة” في الشريعة الإسلامية، وتطبيقات هذه الفكرة، نجد أن الإسلام قد جعل للكثير من المفردات قيمة عالية وحثّ على الاهتمام بها اهتماما يتناسب وقيميّتها. فنجده جعل القيمة لبناء الذات وبناء الأخلاق والعلم والدين .. وغير ذلك. كما وأنّه قد جعل للـ”وقت” مساحة كبيرة من الأهمية والقيمة التي لا يجوز التفريط بها، باعتبار أنه المكون “للعمر” الذي هو من أغلى الأمور بالنسبة للإنسان والتي لا يرضى عنها بدلا ولا حِوَلا، ولو خيّر بمال الدنيا كله..، وعن الأمير (ع): (إنّ عمرك وقتك الذي أنت فيه).

نعم العمر هو قيمة عالية والوقت مكوّن له، فكلما سرنا في عجلة الزمن تناقص العمر شيئا فشيئا. يقول الإمام علي (ع): (إنه لن يستقبل أحدكم يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله).

ولأن العمر ذا قيمة عالية تجد أنّ الله لما أراد أن يشتريه قدّم بدلا عاليا يتناسب معه (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/111.

وبعد أن اتضحت قيمة الوقت وما يشكل من ثروة، فلابد إذن من أن نبادر بوضع الآليات والطرق التي تضمن لنا الاستفادة من هذه الثروة، وعنصر المبادرة ها هنا مهم للغاية، وعن الأكرم (ص): (إن العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدر له، فبادروا قبل نفاد الأجل).

فدعونا إذن نتحدث عن الطرق التي تؤدي للانتفاع من الوقت الانتفاع المرجو والمؤمل.

  • البرمجة والتقسيم للوقت:

ورد عن الأمير (ع): (للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب نفسه، وساعة يخلي بين نفسه ولذتها فيما يحل ويجمل) وعن الإمام الكاظم (ع): (اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم) وغيرها من روايات بنفس المضمون وردت عنهم (ع).

وهنا نلاحظ أن أهل العصمة (ع) يركزون على جهة مهمة جدا، وإلتفاتة يجب أن تكون محل عناية، وهي مسألة تقسيم الوقت وبرمجته، فالبعثرة في الحياة تعني ضياعا لمساحات كبيرة جدا من الوقت والعمر، بخلاف البرمجة فهي تعني ترشيدا للوقت واستفادة لكل لحظات الحياة.

  • مكونات البرمجة والتقسيم:

لابد للبرمجة والتقسيم من أن تشتمل على مكونات يجب مراعاتها هي:

أولا: الموازنة بين الأولويات:

بأن نقدم الأهم على المهم وأن لا نشتغل بالمهم فيضيع منا الأهم، فمن اشتغل بالمهم ضيّع الأهم، فما بالك بمن يشتغل بغير المهم فهو يضيّع الأهم والمهم معا. وهذا الأمر يعرف بـ”التنظيم للوقت” فعندما نقول بتنظيم الوقت لا نعني فقط جعل هذا أولا وذاك ثانيا، بل نجعل الأهم أولا ثم المهم ثانيا وهكذا نتدرج.

ثانيا: التوازن في الأولويات:

بأن تخضع الأولويات هذه إلى معيار التوازن الذي ينشأ من النظر في الإحتياجات والأهداف، ومن النظر إلى حظ الدنيا والآخرة، فلا تطغى الأولويات الدنيوية على الأخروية، وعلى وفق ذلك كان تقسيم الإئمة (ع) -بحسب ما ورد سابقا- ناظر لهذه الجهة والحيثية، من جعل ساعة لله، وساعة للملذات المحللة. وفي كل قسم أيضا يجب أن يكون هناك تقسيم أيضا وهكذا، حتى نصل إلى تكامل في البرمجة والقسمة، يغطي كل المساحات الذاتية والعلمية والإجتماعية والدينية وغيرها، بما يعود على النفس والحياة بالخير والمنفعة.

ثالثا: المراقبة والمحاسبة:

المسألة لا تنتهي بالأمرين الأولين بل لا بد من جعل أداة تقوم على معادلة (الحفظ/والتطوير)، والأداة التي تقوم بهاتين الوظيفتين هي أداة المراقبة والمحاسبة، فمن خلال المراقبة نحفظ البرمجة من أن تحيد عن خطها المرسوم لها، والمحاسبة كأداة تقييمية للخطة الموضوعة في جانبيها السلبي والإيجابي، لتنطلق الخطة بعد ذلك في مسار التطوير والفعالية.

  • تجنب معاول الفراغ:

بقي أن نشير أن هناك مشكلة تواجه كل ما ذكرناه، وكأنها معاول الهدم التي تهدم البناء الشامخ الجميل، وهذه المشكلة يقول عنها الإمام علي (ع): (إن كان الشغل مجهدة، فاتصال الفراغ مفسدة).

نعم اتصال الفراغ مفسدة لكل البرامج وكل الطموحات والأحلام التي يضعها الإنسان، نعم قد يحتاج الإنسان إلى مساحة من الراحة وهذا أمر ضروري، ولكن هذه المساحة يجب أن تكون على وفق ما يقرره الرسول (ص): (ساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب) فهي ساعة الإمداد بالطاقة والعون، لا الساعة والقسم الذي يأكل كل الأقسام ويضيعها، وذلك عندما تنقلب الراحة إلى حالة من الكسل والخمول! فلا تترقب أي تطوّر لا على صعيد الذات ولا على صعيد الحياة بشكل عام، إذا كان الحال هكذا.

ولذلك إياك ثمّ إياك أن تقع في فراغ متصل تعيش فيه حالة من الكسل والخمول يعطل كل مسارات حياتك، لتعيش الإحباط واللامبالاة.

إذن بالتقسيم والبرمجة المشتملة على الضوابط التي ذكرناها، والمستلهمة من كلمات بيت العصمة (ع)، تتوافر لنا الظروف الملائمة لبناء وتطوير الذات، بل أنّ هذا الأمر ليس حكرا على الأفراد بل حتى المؤسسات تحتاج إلى إتباع هذه السياسة أيضا في طريقة إدارتها لخططها وبرامجها.