ونحن نعيش ذكرى عاشوراء، هذه الذكرى التي تجسد فيها انتصار الدم على السيف، رغم أن الحسابات المادية قد تشير إلى حسم عسكري كبير إلا أن حساب المسألة ليس مقصورا على الصعيد المادي والدنيوي، كما يفهم الظالمون دوما.
فهناك حسابات معنوية وإلهية تقدر المسألة بنحو مختلف تماما، لتكون النتيجة بعد ذلك مختلفة تماما، فهي بحسب القراءة الإلهية لعاشوراء فإنّ المنتصر فيها الشهيد، والحياة فيها لمن بذل دمه في سبيل الله سبحانه لقوله عزّ وجل: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران .
-عاشوراء مبدءا ونتيجة لله:
عاشوراء كانت لله لا من جهة المنتهى وحسب، فإنّ الحسين (ع) قد خط خطا وسار عليه منذ بداية حركته وثورته ضد الطغيان، ويبدو أن المحاولة التي حاولها بنو أمية سابقا قد عاد أتباعهم اليوم لمحاولتها من جديد، إذ حاول بنو أمية حصر القضية وكأنّها صراع بين شخصين حول الملك على نسق (الحسين سلطان ويزيد سلطان وما لنا والدخول بين السلاطين) ولا ريب أن حصر القضية في النطاق الشخصي يقزم من حجمها الحقيقي ويشوها من صورتها، بل نجد يزيد نفسه حاول أن يخرج نفسه ويبرّئ نفسه من مقتل الحسين (ع) بنسبة قتله لابن زياد.
هذه السياسة الأمية عادت في هذه الأيام لتطرح من جديد ويحاول البعض أن يدافع عن يزيد وينفي مسؤوليته عن مقتل الحسين (ع) ولكن هذه المحاولات هي من الضحك على الذقون.
ولذلك كان الحسين (ع) على دراية بالسياسة الأموية، وفي كثير من المواضع كانت له وقفات ومقولات تؤكد على أنّ القضية بينه وبين يزيد لا تدور في فلك الشخصنة وإنّما هي ثورة ضد مواقع الظلم والفساد الذي يتزعمه يزيد، ومن أبرز هذه النصوص وأكثرها وضوحا قول الإمام (ع) في وصيته لأخيه محمد:
(وإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين)
-كيف نقبل الحسين (ع):
هنا في كلمة الحسين (ع) جملة في غاية الأهمية، تحدد وتميز الركب الذي سار مع الحسين (ع) من ذلك الركب الذي تخلف معه أو سار مع يزيد، ولا نريد أن ندرس ذلك النص فقط في تلك الفترة الزمنية ونجعله مرهونا بها، إذ النص به حيثيات ومواد سيّالة قابلة للتطبيق في كل الأزمنة.
فقول الإمام الحسين (ع): (فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين) يعطي ضابطة مهمة هي: أنّ من يقبل الحسين (ع) ويدّعي السير على خطاه فلابد من أن يكون سائرا على خط الله أيضا، لأنّ خط الحسين (ع) هو خط الحق الذي هو خط الله عزّ وجل.
-عاشوراء احتفالية الحق:
مما ذكرنا يتضح تماما أنّ السير على خطى الحسين (ع) يتطلب منا التزاما بتعاليم الله وتعاليم الإمام (ع)، ولا تفكيك بينهما أبدا، وهذا يعني أن عاشوراء يجب أن تكون احتفالية للحق واحتفالية تتجسد فيها تعاليم الإسلام وأخلاق الإسلام وأحكامه.
وعندما نجد في بعض مواقع الإحياء ابتعادا عن خط الإسلام وتجاوزا لأحكامه يجب علينا أن نقوم هذه النقاط لنبقى على خطى سيدنا (ع).
فدعونا نتناول بعض النقاط التي قد يمارس البعض منها فيها خلالا وابتعادا عن أحكام الله سبحانه وتعالى.
1-الإطعام للمؤمنين سنة
ولكن من دون إسراف:
عن الإمام الصادق (ع): من أطعم مسلما حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا الله ربّ العالمين.
وعن الإمام الباقر (ع): إن الله يحب إطعام الطعام وهراقة الدماء.
وعن رسول الله (ص): إن أهون أهل النار عذابا عبد الله بن جذعان، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: إنّه كان يُطعم الطعام.
كل هذه المرويات وغيرها تشير إلى استحباب الإطعام للمؤمنين وما له من أجر عظيم عند الله سبحانه، فكيف إذا كان الإطعام حبّا في أبي عبدالله الحسين (ع)، لا إشكال أنّه يكتسب مزية إضافية لأن الحسين (ع) معبر من معابر الوصول لله سبحانه وتعالى، فكيف بك إذا كنت تصل وتساهم في إيصال الآخرين من خلال بذل الأسباب التي تهيئ لإحياء عاشوراء.
وبعد كل ذلك لابد لنا من أن نقرأ قوله سبحانه: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف، ويكون ماثلا أمام أعيننا تماما كي نبقى على خط الوصول لله سبحانه وتكون سنة الإطعام في إطارها الصحيح.
2- التشبيه والتمثيل فنٌ راقٍ ولكن من دون توهين وإضعاف:
من الأدوات التي يمكن استعمالها ايجابيا في إثراء الإحياء لعاشوراء هو تفعيل الدور التمثيلي والتجسيدي لعاشوراء، وقد بدأ هذا الفن يتحرك في واقعنا بشكل إيجابي، وكثيرا ما يسأل المؤمنون عن الضوابط الشرعية التي يجب مراعاتها عند تجسيد دور المعصوم في هذه التمثيليات أو تجسيد بعض الأولياء والصالحين والصحابة.
ويذكر الفقهاء في هذا الصدد ضوابط مهمة أهمها ما يلي:
- لابد من مراعاة التعظيم والتبجيل المتناسب والشخصية الممثلة.
- أن لا يشتمل على ما يسيء لتلك الشخصيات المعظمة والمقدسة.
- أن يكون المضمون مضمونا لا يحرّف أو يشوّه القضية.
هذه ضوابط مهمة يجب مراعاتها عند تمثيل أو تشبيه المعصومين (ع).
ومعنى ذلك لابد من الإعتناء بمضمون النص المسرحي أو سيناريو الفلم أو المسلسل، ثم لابد من الإعتناء بالشخصيات التي تمثل الأدوار حذرا من أن ينعكس سوء شخصية الممثل على الشخصية الممثلة، ولابد أيضا من مراعاة ظروف التمثيل وما يحيط به بحيث لا نقع فيما يوهن أو يضعف من شخصية المعصوم.
3-الرثاء والإنشاد سمو في جو الولاء ولكن من دون غناء:
يقول الباري: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) الحج، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لقمان.
هكذا كان وضوح حديث الباري سبحانه عن الغناء، فلا إشكال في حرمته، وإنّما المشكلة في بيان حقيقته وما يتحقق به الغناء المحرّم لنتحقق بعد ذلك من بعض المرثيات واللطميات والأناشيد لبعض رواديدنا ومدى وقوعها أو ابتعادها عن الغناء.
وسنذكر في تحقيق معنى الغناء ما ذهب له جملة كبيرة من فقهائنا الأعاظم، ونبتعد عن الآراء الأخرى التي قد تكون أكثر تشددا.
يقول سماحة السيد الخوئي (قده): (إنّ الغناء المحرم عبارة عن الصوت المرجع فيه على سبيل اللهو والباطل والإضلال عن الحق، سواء تحقق في كلام باطل أم في كلام حق).
ثمّ يقول (قده): (وعلى هذا فكل صوت كان صوتا لهويا ومعدودا في الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصي، فهو غناء محرم، ومن أظهر مصاديقه الأغاني الشائعة بين الناس في الراديوات ونحوها) مصباح الفقاهة ج1.
ويقول سماحة السيد السيستاني (حفظه الله) : (الغناء كله حرام، وهو على المختار: الكلام اللهوي الذي يؤتى به بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب ، ويلحق به في الحرمة قراءة القرآن الكريم والأدعية المباركة ومدائح أهل البيت ( عليهم السلام ) بهذه الألحان) فقه الحضارة.
فالمعيار كما يطرحه السيد الخوئي (قده) والسيد السيستاني (حفظه الله) هو خروج الصوت في النتيجة بنحو يؤلف صوتا بكيفية لهوية متماثلة مع تلك الأصوات التي يستعملها اللهاة والبطّالون في مجالس لهوهم ورقصهم ومعاصيهم وشربهم للمحرم، تلك المجالس المنعوتة في لسان الفقهاء بمجالس الفسوق.
وهذا المعيار كما نلاحظ لا يركّز على مضمون الصوت، وإنّما يركز على كيفية الصوت وطريقة ترجيعه، فقد يكون المضمون حقا كدعاء أو رثاء ولا أجمل، ورغم ذلك يتغنّى به البعض عندما يقرؤه بكيفية لهوية بنحو الألحان المستعملة في مجالس اللهو والفسوق.
– استعمال الموسيقى:
بعدما اتضحت حقيقة الغناء، ووجدنا المكوّن الأساسي للغناء هو كونه بكيفية تتناسب والكيفية واللحن المستعمل في مجالس أهل الفسوق، نقول:
إنّ الغناء كما قد يكون بالصوت المجرد (صوت الحنجرة) قد يكون بالصوت والآلة الموسيقية معا، أو بالآلة الموسيقية وحدها، أو بالمؤثرات الصوتية التي تستعمل حديثا.
إذ قد يقول القارئ أبياتا هي لوحدها ومجرّدة عن الآلآت الموسيقية لا تشكل غناء لأنّ مستوى الترجيع مثلا عاديا لم يبلغ حدّ الكيفية اللهوية، وبعدما تضاف له الموسيقى والمؤثرات الصوتية وتتمازج معه يتشكل لحنا لهويا فيكون غناء.
وربما يتشكل اللحن اللهوي من الموسيقى لوحدها بعيدة عن الأبيات وصوت الحنجرة.
إذن نلاحظ أن الغناء يمكن أن يحصل بثلاثة أمور:
- بصوت الحنجرة وحدها.
- بصوت الآلات الموسيقية والمؤثرات الصوتية وحدها.
- بكليهما.
كلّ ذلك متى ما تحققت الكيفية اللهوية المتناسبة ومجالس البطالين.
-كيف نحدد الألحان الغنائية من غيرها؟
من الواضح أنّ تحديد كون هذا اللحن متناسب مع مجالس البطالين أو لا؟ موكول للعرف الذي يمتلك التمييز والخبرة بين هذا وذاك، ومعنى ذلك أنّ أفضل من يشخّص الألحان اللهوية من غيرها هم العصاة الذين يستمعون لهذا وذاك.
ولا يكفي ما يفعله البعض من عرض الأشرطة على بعض المؤمنين أو بعض مكاتب المشايخ والفقهاء وأخذ إجازة عليها، فإنّ هذه المكاتب لو كانت هي من تستمع وتقيّم فهي تقع في الخطأ بلا ريب، وذلك أنّهم لم يستمعوا لما لدى مجالس البطالين، وما يحدثونه من تجديد في ألحانهم اللهوية.
نعم هناك قسم من الألحان واضح جدا اندراجها في الغناء لزيادة الخفة والترجيع والتأثير الصاخب والموسيقي فيها.
ولذلك يجب على الإنسان أن يحتاط في هذا الجانب قدر الإمكان فقد وُجدت بعض الأشرطة لبعض المنشدين ممن حاول أن يستوثق قدر الإمكان فعَرض أناشيده وشريطه على بعض المكاتب وأجازوه، ومن ثم يأتي الكثير من الأخوة فيشيرون إلى أنّ هذا اللحن يتماثل ويتطابق وأغنية ذلك المغني أو ذاك.
ويبدو لي أنّ مشكلة الوقوع في الغناء من قبل بعض المنشدين في هذا الزمان أصبحت مؤرّقة وعويصة، فلابد من الحذر البالغ في التعامل مع الموسيقى والمؤثرات الصوتية.
حيث أنّ البعض قد جُرّ لسماع الغناء بسبب بعض الأشرطة المحسوبة على بعض المنشدين والمقرئين الحسينيين.
موضوع شائك يحتاج لتنظيم مؤسساتي يُشرف على حركة إنتاج هذه الأشرطة.
ويجب على المكلف وسط غياب هذا التنظيم من أن يراقب نفسه إذ قد يمتلك هو نفسه إمكانية التشخيص لبعض الأناشيد فلا تتساهل مع نفسك ولا تتكّل على كون الأنشودة في الله أو في حب أهل البيت (ع) ونحوه.
ولا ينبغي أن يفهم البعض من كلامنا السابق أننا ضدّ تحسين الصوت أو اختيار الألحان الحزينة أو نحوها مما يكون له وقع في النفس والروح فكما يقول السيد الخوئي (قده) (لا ريب أنّ للصوت تأثيرا في النفوس، فإن كان إيجاده للحزن والبكاء وذكر الجنة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم يكن غناء ليحكم بحرمته، بل يكون القاري مأجورا عند الله، وإن كان ذلك للرقص والتلهي كان غناء وسماعا ومشمولا للروايات المتواترة الدالة على حرمة الغناء) مصباح الفقاهة. فمتى ما سرنا على الضوابط لا مشكلة لدينا إطلاقا.
وهذه المسألة ليعلم الجميع أنّها ليست ملقاة على الرواديد فحسب وإلا فالرواديد جزاهم الله خيرا يبذلون جهودا كبيرة في خدمة الدين، فمن غير اللائق التحامل عليهم وتحميلهم كل المسؤولية، وليس الغرض من كتابتنا لهذا المقال ذلك إطلاقا، فدعاؤنا لهم دوما بالتوفيق لكل خير، وإنّما أثرنا الموضوع لنتباحث حول هذه القضية العويصة وكيف نضع حلولا لها.
ووفق الله الجميع لخدمة الدين وأهله، وأخذ بأيدينا جميعا لطريق هدايته إنّه على ذلك لقدير.
– حضور المرأة في المواكب نصرة لزينب (ع)
مادام بعيدا عن التبرج:
لا يمكن للإنسان أن يغفل الدور الذي تضطلع به المرأة في المجتمع، وعند العود إلى واقعة كربلاء نلاحظ الدور الكبير الذي قامت به زينب (ع) وباقي النساء في نصرة قضية كربلاء، فكثير من شباب شهداء كربلاء كان من ورائهم نسوة قد ملئوا قلوبهم حماس واندفاعا نحو الشهادة، وكثير تلك الدعاية التي أطلقها بنو أمية وأتباعهم وجدنا زينب (ع) وأتباعها هم من تصدوا لها.
وهكذا فإننا متى ما انخلقت لدينا نساء كزينب (ع) فإنه يمكن لنا أن نخدم الدين وأهله بشكل أكبر وأوسع.
والمرجو من تواجد النساء في محافل عاشوراء المختلفة هي النصرة لقضايا عاشوراء، والتي من أهمها نصرة الدين وأحكام الله عزّ وجلّ.
ومن غير اللائق أبدا ما نجده عند بعض النساء من التواجد في عاشوراء بنحو لا يتساير مع ثقافة عاشوراء فنراهم في حالة من التبرج والسفور المتناقض مع ما يدعو له الحسين (ع).
فلا الحسين (ع) ولا أحدا من الإئمة (ع) يرضى بذلك أبدا، وبدلا من أن يكون الإنسان في هذه المحافل محلا لشمول الرضا الإلهي والدعاء من قبل المعصومين (ع) يكون محلا للسخط والغضب واللعن.
ومن الخطأ جدا أن نحصر مسألة الحجاب فقط في تغطية الشعر، فإنّ التغطية له مفردة من الحجاب الشرعي، إذ يجب في الحجاب أن لا يكون الملبس شفافا أو مغريا لضيقه أو زينته أو نحو ذلك.