قال تعالى في محكم كتابه المجيد: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
آل عمران/(103).
تتكاثر أعداد المسلمين وتتزايد يوما بعد يوم، من دون أن يشكل هذا التزايد -رغم حجمه الكبير- قوة تساهم وتؤثر في القرار الدولي والعالمي، أو لا أقل قوة تساعد في حماية حقوق هذه الأمة العظيمة في تاريخها، والكبيرة في قِيَمها.
والسبب الأساس في ذلك: ما تعيشه الأمة الإسلامية من شتات وتمزق وتشرذم..، فنحن نعيش في زمنٍ الحاكم فيه الأقوى، والضعيف فيها مهزوم مذلول، ويمثّل الضعف نتاجا وإفرازا طبيعيا للفرقة والشتات، وما يزيد القلب إيلاما، ويُدمِع العين أسى، أنّنا لا نجد في الأفق القريب ولا حتى البعيد محاولات جادة على الطريق الصحيح لتصحيح وضع الأمة وتوحيد كلمتها. بل نرى مساحات وفجوات التباعد تتزايد وتتباعد مسافات ومسافات..، لولا دعوات المرجعيات التي لا تألو جهدا في محاولات لم الشتات وتقريب الفجوات.
فيا ترى ما هي أسباب هذه الفرقة والتباعد؟! وهل إلى جمع الكلمة بحبل الله من سبيل؟
أسباب الفرقة:
يمكن لنا أن نعزو أسباب الفرقة التي تعتري المسلمين إلى أسباب فرّقت من الداخل، وأسباب من الخارج، وهي على النحو التالي:
- الأسباب الداخلية:
ونريد بها الأسباب النابعة من الأمة الإسلامية نفسها، أي من أفرادها وتركيبتها، وهي تُعد أشد خطرا من تلك الأسباب الخارجية، إذ العدو إذا هاجم المتدرِّع والمتسلح استعصى عليه ولربما صرعه، أما إذا هاجم الضعيف المجرد كان طيّعا في يديه سهل مُتمكن. وما يحدثه التناحر الداخلي هو الضعف والوهن، بحيث نصبح مكشوفين أمام الأعداء.
ونذكر لك أهمّ الأسباب الداخلية التي تعصف بالأمة:
- انقسام الأمة بعد وفاة الرسول الأعظم (7)، ليُفتح بذلك سجال طويل بين الأمة، وليبدأ مسلسل التفرق في مذاهب عديدة ومختلفة. ولسنا بصدد الخوض فيما كان الحق، أو ذكر الأدلة على أحقية الأمير(×) بمنصب الخلافة بعد الرسول (7)، فهي أكثر من أن تحصى، وأوضح من أن تدفع، ولكن ليس هذا هو محل البحث.
- الاختلاف في جوانب أخرى عديدة وأهمها الاختلافات العقائدية والفقهية والفكرية وغيرها، ويقول أمير المؤمنين (×): (سبب الفرقة الاختلاف)، وليست المشكلة في نفس الاختلاف وفقط بل المشكلة في طريقة إدارة هذه الاختلافات، فالاختلاف بين الأفراد حاصل على كلّ حال ولا يمكن القضاء عليه بشكل نهائي نعم يمكن تقليصه وتحجيمه، وذلك أنّ اختلاف الإنسان في طريقة تفكيره وما يؤثر عليه من البيئة والمبتنيات وغيرها يُنتج الاختلاف بشكل طبيعي، يقول المولى سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود/119،118، فالتعبير بـ(وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يحكي هذه الحالة الطبيعية التي شهِدتها وما تزال تشهدها المجتمعات المتعاقبة.
ولا نعني بقولنا: (الاختلاف حالة طبيعية) تبرير الاختلاف، بل لابد أن نعرف أن الاختلاف في غالب صوره حالة مرضية سلبية تعصف بكيان الأمة، فللاختلاف أسبابه السلبية، ونقاط ضعف ينطلق منها، فالجهل مثلا يعد من أسباب الاختلاف، عن الأمير (×): (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس). فلسنا أبدا نبرر للاختلاف في صوره السلبية، ولكن نقول بضرورة التعاطي مع هذا الاختلاف بصورة صحيحة، نحجّم من خلالها نقاط الاختلاف.
ولا يكون ذلك إلا من خلال إيجاد آلية ناجعة في إدارة اختلافاتنا، لأني أعتقد أنّ البداية الصحيحة يجب أن تكون من خلال الاتفاق على هذه الآلية. ولعله يكون لنا وقفة معها في حديث آخر، ولكن نتحدث عن إشكاليات الآلية المعمول بها حاليا بيننا، في إدارة ومعالجة اختلافاتنا، إذ نجدها مبتلية بعدة سلبيات منها:
– لغة السب والشتيمة: امتلاؤها بالشتم والسبيبة، وابتعادها عن المعالجة العلمية، لتكون مساحة الصدر لا العقل هي المدير لخلافاتنا، ولو رجعنا إلى ما أثر عن أهل البيت (×) لوجدنا كمًّا من الروايات تعالج وتنهى الإنسان من أن يكون الصدر هو الذي يدير خلافاتنا، يقول الأمير (×) بخصوص ذلك: (إنما أنتم إخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر).
– الفتاوى المتشددة: من أخطر ما يضر بوحدة الأمة تلك الفتاوى التي يطلقها بعض الشيوخ هنا وهناك، ذات الطابع المتشدد في الحكم على الآخر، ومن أسوء تلك الفتاوى وأعظمها شرا ما نجده في هذا الزمان من تعالي لغة التكفير والتظليل، بل بعضها يقارن فيعطي الأهونية لليهود بالمقارنة بطائفة ما؟! فوا أسفا من هذه الفتاوى التي لا تجلب وعيا، ولا تصحح عملا، ولا تدعو إلى الله، ولا تصنع مجدا بل تجرّ الآهات والآهات.. .
ب- الأسباب الخارجية:
تتمثل في خطط أعداء الدين ودول الاستعمار، في محاربتها لكل نواة وحدة أو تجمّع قوي في هذه الأمة، بدءا بتقسيم الأمة الواحدة إلى دويلات صغيرة وخلق مشكلات فيما بينها، وحرف الأمة عن التفكير كأمة واحدة ذات مصير واحد، ليبتعد التفكير الإسلامي من خلال إيجاد تفكير عُرُوبي أو عرقي، وصولا في هذا الزمان إلى التفكير في دائرة الطائفية وفقط ولا ندري إلى أين نصل.. .
مقومات الوحدة في الأمة الإسلامية:
تعد الأمة الإسلامية أكبر مجتمع اجتمع على كلمة التوحيد، وبذلك يمتلك مقومة وركيزة أساسية على طريق الوحدة، ويمكن أن نقول أننّا إذا رجعنا إلى القرآن وإلى السنة لوجدنا فيها كلّ الخطوط والمقومات المطلوبة لتضعنا في خندق الوحدة:
قال الله تبارك وتعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)) الحجرات.
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)) التوبة.
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) آل عمران.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) آل عمران.
والآية هذه من أروع الآيات في هذا الجانب إذ يشير المولى إلى التمسك بحبل الله، وينتقل بعد ذلك إلى تذكيرهم أين كانوا وأين أصبحوا..، كانوا أعداء الأمس وإخوان اليوم، ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزّق بهذه الوحدة القوية الصلبة.
والملفت للنظر هو تكرار كلمة (نعمة) في هذه الآية مرتين، وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الهبة الإلهية التي لا تتحقق إلا في ظل التعاليم الإسلامية والاعتصام بحبل الله.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تعزز مفهوم الاجتماع والتوحّد وتحث عليه. وورد عن الرسول قوله (|): (مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
فالأمة الإسلامية بعد كلّ ذلك تمتلك المقومات الوحدوية.
الخطوات العملية التي تضعنا على الطريق..
بعد كلّ ذلك فلنضع لنا خطط عملية، تعزز الوحدة في نفوس الأجيال وتتآكد، وهذه الخطط التي سنجعلها تمثل خططا مستوحاة من القرآن الكريم والسنة المباركة، والجهة المطالبة بتنفيذها هو كل مسلم ومسلمة، في أي موقع يشغله، سواء في ذلك المواقع الفكرية والثقافية والفقهية أو المواقع الاجتماعية والحياتية، بل حتى المسلم العادي، مطالب بسلوكها والسير على وفقها.
والخطط التي سنجعلها يمكن أن نقسمها إلى قسمين: (خططا تحاكي القناعات العقلية والفكرية وما يرتبط بها، وخططا تحاكي السلوك الاجتماعي والأخلاقي):
أ- الخطط العلمية: ونريد بها الخطط والخطوط التي تحكم العقل في تفكيره الفكري أو الثقافي أو غير ذلك، وتتمثل فيما يلي:
1- الاقتناع بالفكر الوحدوي والإيمان بالوحدة، باعتبار أنّها المفهوم المستوحى من القرآن الكريم والسنة كما مرّ.
2- الابتعاد عن لغة السب والشتيمة، وذلك من خلال احترام الرأي الآخر والمذهب الآخر.
3- الابتعاد عن فتاوى التكفير والتضليل. وأن لا نسلب الإسلام عن أهله.
4- محاولة دراسة الآخر من خلال ما يَكتب ويَقول لا من خلال ما يُكتب عنه وما يُقال عنه.
ب- الخطط الاجتماعية والأخلاقية: تزخر الروايات والأحاديث الشريفة بالكثير من المفاهيم الاجتماعية التي تعزز مفهوم الوحدة ومنها:
1- المحبة للغير: قال رسول الله (7): (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا). وقال (7) أيضا: (ألا وإن المؤمنين إذا تحابا في الله عز وجل وتصافيا في الله كانا كالجسد الواحد إذا اشتكى أحدهما من جسده موضعا وجد الآخر ألم ذلك الموضع).
2- تعزيز مفهوم الأخوة في المجتمع والابتعاد عن العصبية: قال رسول الله (7): (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله)، وعنه (7): (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).
3- التواصل الاجتماعي: وقد قال الإمام الصادق (×) في التعامل مع الآخر: (عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلوا في مساجدهم).
4- تعزيز مفهوم الصفح والعفو: قال رسول الله (7): (شر الناس من لا يعفو عن الزلة، ولا يستر العورة)، وعن الإمام علي (×) في عهده المعروف لمالك الأشتر لما بعثه لمصر: (ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه . . . ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحن بعقوبة.
الخلاصة:
خلُصنا إذن إلى أن الدين الإسلامي يدعو إلى الوحدة ويأمر بها، فإذا أردنا أن نكون على الطريق فلنجسد تعاليم الإسلام وأحكامه لأنّها هي المدد من الله قال تعالى: (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) فنسبة الأمر إليه دليل على أن الوحدة تمثل إعجازا إلهي لا يحصل إلا بالله سبحانه وبتعاليمه، ونعتقد أنّنا إذا سرنا وفق الخطط التي ذكرناها والمستوحاة أصلا من القرآن والسنة نصل إلى مفهوم المصير الواحد والأمة الواحدة.