(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
مفهوم العمل التطوعي ومكانته في الكتاب والسنة
في النفس خطان متقابلان متجاوران لا تناقض بينهما، لأن كل واحد منهما يكمل الآخر، وهذان الخطان المزدوجان هما الالتزام، والتطوع، والإسلام دين الاعتدال والتوازن يجمع بينهما في نظام واحد، ويتجه بهما إلى تحقيق حكمة الحياة وغايتها (1).
فالإنسان يميل بفطرته إلى الالتزام، ويؤيد ذلك الحس والعقل، إذ إنه لا يمكن أن يستقر نظام الحياة الإنسانية بجوانبها المختلفة إلا بالالتزام وأداء الواجب، ومن أجل ذلك شرع الإسلام قدرا ضروريا من الالتزام (أوامر ونواه وحدود) تصلح به حياة المجتمع، وتحفظ نظامه من الفساد، إلا أن الالتزام في الإسلام -وهذه مزيته وخصوصية له- هو التزام لله تعالى وحده، ومن ثم لا يقع في عبودية طاغوت أو نظام أو هوى من الأهواء.
وينبغي العلم بأن الإسلام لا يحصر تشريعه في الالتزام بالواجب أو الفرائض والحدود، ولكنه يرتفع عن خط الالتزام إلى خط التطوع، بحيث يؤدي الإنسان الأعمال الصالحة، ووجوه البر المتعددة برغبة ذاتية خالصة، تظهر فيها ثمرة الإيمان الحقيقية، وتتجلى قوته وعمقه؛ لذا يفتح الإسلام باب التطوع على مصراعيه، ليفجر ينابيع الخير في النفس البشرية، ويستثمر طاقات الإنسان المسلم في خدمة مجتمعه، متطوعا متبرعا دون فرض أوإكراه، وهذا ينمي حب عمل الخير والرغبة فيه، ويقوي رابطة المجتمع وتماسكه، إلى منافع أخرى كثيرة وجليلة، تنطوي في ظلال قوله تعالى {… فمن تطوع خيرا فهو خير له…} (البقرة:184)، وقوله تعالى {… ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} (البقرة:158).
ومن يتأمل كتاب الله تعالى يجد دعوة قوية دائمة إلى التطوع بفعل الخير والتسابق إليه والمسارعة فيه والتعاون عليه، وكذلك حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام تراها زاخرة بالعمل الصالح والبر بمفهومه العام والتطوع بالخير والتنافس فيه.
التطوع في اللغة والاصطلاح
التطوع بالشيء: التبرع به. والمطوعة: الذين يتطوعون بالجهاد. ومنه قوله تعالى {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات…} (التوبة:79)، وأصله المتطوعين فأدغم. والمتطوع هو الذي يفعل الشيء تبرعا من نفسه، وهو تفعل من الطاعة. والطوع: نقيض الكره. والاستطاعة: الطاقة والقدرة على الشيء. وفي التنزيل: {فمن تطوع خيرا فهو خير له} (البقرة:184). والتطوع في الاصطلاح: ما تبرع به من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه(2).
مفهوم العمل التطوعي
مكانة العمل التطوعي في الإسلام
إن الإيمان الذي يدعو إليه الدين الإسلامي ليس إيمانا ذهنيا مجردا ولا إيمانا خاملا سلبيا، ولذلك تجد القرآن يقرن دائما الإيمان بالعمل الصالح، لأنه ثمرته اللازمة ونتيجته التي لا تنفك عنه، فإذا تخلف عنه انتفت عنه حقيقة الإيمان، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا، كقوله تعالى {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} التي تتكرر في القرآن، وتقرن دوما الإيمان بالعمل الصالح.
والعمل التطوعي هو جانب مهم وأساسي من العمل الصالح، أما من حيث دلالته ودرجته من الإيمان، فهو ذروته السامقة، لأن صاحبه يتطوع به من تلقاء نفسه دون إلزام أو إجبار، والتطوع هو ميدان السبق الذي يظهر السابقين، ويميزهم عن أصحاب اليمين.
العمل الصالح قسمان
والحاصل أن العمل الصالح قسمان: التزام وتطوع، ويدخل في الالتزام الفرائض التي فرضها الله تعالى، وتشمل العبادات وسائر الأعمال الصالحة المفروضة فرضا عينيا أو كفائيا، مثل طلب العلم، وبر الوالدين، وكل ما تحتاجه الأمة في أمر دينها وأمر دنياها، ويدخل في دائرة الالتزام ترك المحرمات وحفظ حدود الله تعالى كما جاء في حديث أبي ثعلبة (رضي الله عنه): «أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (رواه الدارقطني مرفوعا).
أما القسم الثاني من العمل الصالح، فهو التطوع، ودائرته أوسع بكثير من دائرة الالتزام، لأنها كما ذكرنا آنفا مضمار المسابقة والمسارعة والمبادرة التي رغب فيها الكتاب والسنة. نعم الاقتصار على الفرائض مع الكف عن المحرمات، يدخل الجنة، ولكن الجنة درجات، كما قال الله تعالى: {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} (الإسراء: 21)، فبم يكون التفاضل بين أهل الجنة؟ وما سلم الارتقاء في درجاتها؟ وما السبيل إلى الظفر بالفردوس الأعلى في الجنة؟ أم نجعل المقتصد كالسابق؟ كلا، فقد صنف الله تعالى العاملين ثلاثة أصناف، فقال {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} (فاطر: 32)، فالظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، والمقتصد هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، أما السابق بالخيرات فهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات (7)، وهذه الأقسام الثلاثة كالفرق الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة، وينجو منهما فريقان، والمقتصد وإن كان ناجيا، إلا أن نجاته مرهونة بتمام أداء الفرائض، والإتيان بها على أكمل وجه، وهذا لا يتأتى لأكثر الناس، وبالتالي يقع النقص والتقصير في الفرائض، فكيف يجبر النقص؟ وهنا تظهر فائدة النوافل وأعمال التطوع إذ تسد الخلة وتجبر النقص.
وأنبه هنا إلى أمر أراه في غاية الأهمية، وهو أن المؤمن يستجيب لأمر الله من غير نظر إلى التصنيف الفقهي للتكاليف الشرعية إلى فرض وتطوع، فهو يمتثل أمر الله مطلقا سواء كان فرضا أو واجبا أو سنة، ويجتنب ما نهى الله تعالى عنه سواء كان حراما أو مكروها أو حتى خلاف الأولى؛ عبودية لله، وتعظيما لأمره، ولأن التطوع سياج للفرض، فإذا فرط فيه، فإنه لا يأمن من التقصير في الفرض، وتقع الطامة المردية، وهذا من تلبيس إبليس على كثير من المكلفين.
صور من العمل التطوعي في حياة الرسول
هذا وصور العمل التطوعي التعاوني أيضا في السيرة النبوية كثيرة جدا، لا حصر لها، كبناء المسجد، وحفر الخندق، وإنفاق المال في تجهيز الجيش، والجدير بالذكر هنا دور أغنياء الصحابة كعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف في الدعم المالي للعمل التطوعي، ومن أعجب العجب تطوع المعاقين، وأصحاب الأعذار للجهاد في سبيل الله كعمير بن أبي وقاص أخو سعد، وكان صبيا صغيرا، فخرج إلى بدر، وقتل فيها، وعبد الله بن أم مكتوم الرجل الأعمى الذي خرج في يوم القادسية، وكان يحمل اللواء، واستشهد فيها، وعمرو بن الجموح الأعرج الذي خرج في أحد، واستشهد فيها، والأمثلة كثيرة.
مجالات العمل التطوعي
دائرة التطوع أوسع من دائرة الالتزام التي تعتبر الحد الأدنى الضروري من التكاليف الشرعية، ومجالات العمل التطوعي وصوره كثيرة جدا ومتنوعة، ويأتي على رأسها العبادات التطوعية، وليست هي المقصودة هنا، ولكن الغرض الأعمال التي تدخل في إطار العمل التطوعي والإغاثي، وتهدف إلى خدمة المجتمع وتنميته، كما سبق ذكره في تحديد مفهوم العمل التطوعي.
ومن أهم هذه الأعمال المساهمة في خدمة المجتمع أيام الأزمات والشدائد، وبناء المساجد وإعمارها ماديا ومعنويا، ونظافة البيئة، والتودد إلى الناس، وقضاء حوائجهم، وإصلاح ذات بينهم، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وتفريج الكرب، والعفو عن المعسر، وقضاء حاجات المحتاجين، والشفاعة لأصحاب الحقوق وبذل الجاه في سبيلهم، ونشر العلم، والدعوة إلى الله سبحانه.
القاعدة الاقتصادية للعمل التطوعي
وإنفاق المال في سبيل الله من أعظم أعمال التطوع، لأنه القاعدة الاقتصادية لمعظم أعمال التطوع التي ذكرناها، فهي لا تقوم إلا بالمال حتى الدعوة إلى الله تعالى في عصرنا الحاضر لا تنجح ولا تستمر إذا لم يكن لها دعم مالي؛ لتتمكن من سد الباب أمام المؤسسات التنصيرية التي تستغل الفقر والحاجة بما لديها من أموال طائلة وإمكانيات ضخمة؛ لنشر الفساد والإلحاد (8)، وإنفاق المال في سبيل الله له وجوه عديدة يصرف فيها، أعلاها وأزكاها في ميدان الجهاد في سبيل الله، قال تعالى {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} (التوبة:41)، ومفهوم الجهاد هنا لا يقتصر على ميدان القتال بل يشمل المجالات والميادين شتى، ويدخل فيه تشييد المساجد والمدارس والمراكز العلمية، والإنفاق على الدعاة إلى الله تعالى، ومعلمي القرآن.
ومن ميادين العمل التطوعي أيضا أعمال الصدقة الجارية، كمصحف يوقف، أو كتاب ينشر، أو غرس شجرة تثمر، أو ماء سبيل ونحوه، وسقي الماء وحفر الآبار، وإجراء الأنهار، وكفالة الأيتام ورعايتهم وتعليمهم وتدريبهم على حرفة تضمن معيشتهم وتحفظ كرامتهم، وهذا ميدان ينبغي أن يشارك فيه الموسرون وغير الموسرين، لأن رعاية اليتيم لها جانبان: مادي يقدر عليه الأغنياء، ومعنوي يطيقه الجميع.
ما الحكمة من كثرة أعمال الخير وتنوعها؟
تتجلى الحكمة في أمور، منها:
– ترغيب العاملين فيها، لأن الإنسان خلق ضعيفا، فإذا أصابه الملل من عمل انتقل إلى عمل غيره يحبه وينشط فيه.
– تنوع قدرات الناس وتفاوتها من شخص لآخر، فنوع الله العبادات والأعمال الصالحة حتى لا يحرم أحد منها فإن عجز عن إنفاق المال لفقر، فإنه يعمل بيده فيكتب له صدقة، فإن حبسه عن فعل الخير حابس فإنه يدل عليه والدال على الخير كفاعله، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال (صلى الله عليه وسلم) «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (رواه مسلم)، فإنك لا تجد فردا في المجتمع المسلم إلا ويساهم في بناء مجتمعه ونهضته وتطويره بما يملكه وبما يقدر عليه، وبهذا يتحقق التكافل الاجتماعي ويتحقق التكامل أيضا، فهذا يعمل بيده، وذاك ينفق من ماله، وهذا يعلم الناس، وذلك يعمل بفنه وموهبته، وبهذا يتم توظيف جميع الطاقات والمواهب والميول المتنوعة، ويتحقق التكامل والتكافل بين الأفراد -رغم الفروق الفردية بينهم- في خدمة المجتمع.
– زيادة الأجر والثواب، والتقرب إلى الله سبحانه، ولذلك فإن أعمال التطوع هي ميدان التنافس والمسابقة بين العاملين المجدين، وهي التي ترفع رتبة المؤمن من مقتصد إلى سابق بالخيرات، وتنقله من زمرة أصحاب اليمين إلى زمرة السابقين.