الطريقة المتوازنة في التعامل

مع المرويات العاشورية

بقلم: الشيخ رائد الستري

– المنبر الحسيني نتاج طبيعي لثورة الحسين (ع):

يُعدّ المنبر الحسيني من أبرز افرازات واقعة كربلاء، ونتاجا طبيعيا يهدف لمحاكاة واقعة كربلاء وعكس ما تزخر به ثورة الإمام الحسين (ع) من تراث ثقافي وفكري كبير، لما تمثله من تجربة ذات أبعاد عديدة في مواجهة الإنحراف، وصلت لأقصى درجات المواجهة، ممتلكة عناصر العصمة والسلامة من عصمة قائدها، أعطت نتائج إصلاحية عميقة وخالدة قومّت الإعوجاج الحاصل، وسلبت شرعية الحكم القائم آنذاك والمنهج المعاكس.

فرغم استشهاد الإمام الحسين (ع) وأصحابه (رض)، وسحق أجسادهم بحوافر الخيول، وتركها لسباع الأرض لتأكلها، إلا أنّ الحسين (ع) وأصحابه (رض) بقوا وبقت أنوار ثورتهم شاخصة لحد الآن وستبقى حتى القيام الساعة، يقول النبي الأعظم (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا).

ولا عجب أن يواظب المؤمنون على إحياء ذكرى عاشوراء في كل عام، فالقضية ليست شخصية كما يحاول أن يصورها بعض مرضى النفوس، وكأنّ الحسين (ع) اختلف مع يزيد فدارت معركة ثم انتهت ومضى التاريخ عليها؟!

اختزال سيء سببه اسوداد القلب وإعوجاج العقل، ترك للحقد أن يتحرّك ويمرح ويستولي على كل كيانه وعقله، لينال بعد ذلك من سبط رسول الله (ص) ومن ساروا على هداه.

اذ أي عاقل يمتلك حدًّا بسيطا من الإنصاف ويقرأ كتاب الله -عزّ وجلّ- لكان يقول: إنّ ذكرى عاشوراء تخليد لمن مضوا مع ركب الخالدين، وأدنى ما يقول عنهم الباري سبحانه في كتابه المجيد (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران .

إذن ذكرى عاشوراء بمجالسها ومنابرها تعد ممارسة طبيعية، تستمد قوتها وشرعيتها من روح القرآن الكريم الذي أعطى الحياة لجميع الشهداء، فكيف بابن رسول الله (ص) الذي بذل نفسه وأهله وولده وصحبه في سبيل الله سبحانه.

– مشكلة تعترض الطريق..

كي يتسنى لنا الإتباع لحركة الإمام الحسين (ع) والنهل من أنوارها وهداها، لابد لنا أن نتوافر على العلم بكل المعلومات والتفاصيل، الجزئية منها والكبيرة، ذلك أنّ الإتباع فرع العلم. ولذلك يسعى الخطباء بجهد في إبراز التراث العاشوري بكل تفاصيله، ومحاكاته مع واقعنا الراهن.

وهنا تبرز مشكلة..

إذ أنّ هذا الإبراز الذي يقوم به الخطباء يتفاوت من خطيب لآخر، بحيث تكوّنت لدينا أنماط ثلاثة من الخطباء يعتمد كل نمط اسلوبا معينا في نقله لتراث واقعة الطف.

– أنماط الخطباء في نقلهم للمرويات:

الانماط التي يسير عليها الخطباء هي على النحو التالي:

النمط الأول: نمط يعتمد على نقل كل شيء وأيّ شيء ورد عن عاشوراء، المعتبر منها والضعيف، والموافق منها للقواعد العقلية وغير الموافق، بل نقل حتى ما قد يصطدم بتكليف حكم شرعيّ الزاميّ، ظانًّا بفعله هذا أنه يخدم بذلك قضية كربلاء، ويبلّغ أهدافها وينقل أنوارها.

ولكن لا يدري أنّ بفعله هذا يمارس نفس الدور الذي قام به المحرّفون لثورة كربلاء، وذلك أنّ واقعة كربلاء تعرّضت لتحريف ودسّ ووضع من قبل بعض الوضّاعين للحديث، فلا يمكن أن نجزم بصحة كل ما ورد في الكتب عن واقعة الطف، فإذا بهذا الخطيب ينقل ما كَذَبَه الوضّاعون وما اختلقوه.

وهذا النمط الذي يتبعه بعض الخطباء لا يخلو من الكثير من السلبيات أبرزها:

  1. تشويه واقعة كربلاء.
  2. تنفير العقول الواعية والمثقفة.
  3. خلق ثقافة مغلوطة لا تنسجم مع ثقافة التشيّع، ولم تكن هدفا من أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) بل قد تكون على طرف النقيض.

النمط الثاني: نمط يعتمد على التحقيق والتدقيق ورفض كل ما لم يصل إلينا بطرقٍ معتبرة، وإن كان يمكن تجميع شواهد تدعم صحته.

وهذا النمط يعد محاولة لمعالجة سلبيات النمط الأول، ولكن أسرف بعضٌ من أتباع هذا النمط كثيرا، حتى جرّدوا شيئا فشيئا ذكرى عاشوراء من العنصر العاطفي، وخفّفوا من حيث لا يشعرون حجم إجرام الفئة الباغية على الإمام (ع).

ويكفي لنقد هذا النمط النظر إلى روايات أهل البيت (ع) الواردة في مقام الحث على إحياء ذكرى عاشوراء، إذ أنها ترسم الإطار الذي يريده أهل البيت (ع) من الإحياء، ويشكل البكاء والتباكي نقطة مفصليّة وأساسيّة تؤكد عليها المرويات، يقول الإمام الصادق (ع): (من ذُكر الحسين (ع) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنة).

فالوصول بالمنبر الحسيني الى مستوى التجريد من العنصر العاطفي ليكون منبرا ثقافيا فكريا بحت.. وصول إلى غير ما يريده أهل البيت (ع).

ولا نعني بذلك أن نهمل مساحة الثقافة والفكر، إذ من الواضح جدا أن التفاعل العاطفي الذي حثّ عليه أهل البيت (ع) لا يريدون به وضعا نفسيا يبقى في القلب، وتختزنه النفس وفقط!

وإنّما يراد لهذا التفاعل العاطفي أن يكون العنصر الذي ينطلق بالانسان إلى مساحة الإقتداء والإتّباع العملي والفكري والثقافي والأخلاقي وغيرها من مساحات الضياء والهداية على وفق قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران.

النمط الثالث: هو نمط يوازن بين النمطين فلا افراط ولا تفريط، ويتلافى ما وقع فيه النمطان من سلبيات.

إذن ما هي الطريقة العلمية للتعامل مع التراث العاشوري التي توّفر لنا قدرا من التوازن؟

للإجابة على هذا السؤال، نحتاج تسليط الضوء على الطريقة العلمية التي يسير عليها الفقهاء ويتعاملون بها مع المرويات، ثم نرى في إمكان استعمالها مع المرويات العاشورية أو لا؟

– الطريقة العلمية في التعامل مع المرويات:

يتعامل الفقهاء مع الروايات الواردة في باب الأحكام على وفق طريقتين أساسيتين:

الطريقة الأولى: الإعتماد على أخبار الثقات:

هذه الطريقة تعتمد على وثاقة الرواة مائزا للروايات التي يمكن الإعتماد عليها من تلك التي لا يمكن الإعتماد عليها.

فإن كان مخبرو الرواية كلهم ثقاة أمكن الأخذ بمضمونها وترتيب الأثر عليها، أما إذا كان في ضمن الرواة رواة كَذَبَة أو لم يوثّقوا فلا يمكن ترتيب الأثر على تلك المروية.

فتنحصر دائرة الروايات التي يمكن التعويل عليها في خصوص الروايات المعتبرة وهي من كان راووها ثقات.

الطريقة الثانية: الإعتماد على الأخبار الموثوقة والمطمئن بها:

الطريقة الثانية هذه، تعتمد على مدى ايجاب الرواية للوثوق والإطمئنان من عدمه، فإذا أوجبت الرواية اطمئنانا ووثوقا بسببِ ما قد تحتف به من عناصر وقرائن ورواة ثقات ونحوه؛ عندها يمكن الإعتماد عليها، وإن لم توجب ذلك لم يمكن الركون إليها.

وهذه الطريقة تختلف عن الطريقة الأولى إذ لمّا نتعامل بهذه الطريقة مع الروايات الواردة نجدها ستفرض لنا نتائجا ثلاثا اساسية هي:

  1. قد تكون نتيجة جمع بعض القرائن بعضها على بعض حصول الوثوق والإطمئنان برواية وإن كان رواتها ضعافا غير ثقات، مما يعني امكان الاعتماد عليها، إذ المعيار في الإعتماد هو حصول الوثوق والاطمئنان وقد حصل.
  2. وتارة تنعكس النتيجة فلا يمكن الاعتماد على المروية، ذلك أن نتيجة جمع القرائن ورَكم بعضها على بعض أن سُلب الوثوق بالرواية، مما يعني عدم الاعتماد عليها رغم ما قد تكون عليه من كون رواتها ثقاتا، إذ المعيار هو حصول الوثوق والاطمئنان بالرواية وهنا لم يحصل.
  3. وأخرى تكون القرائن على وفق ما قاله الثقات أو لم تكن هناك قرائن مضادة لما قالوه، مما يعني إمكان الأخذ برواية الثقات لايجابها للوثوق بعدما كان رواتها ثقاتا ولا قرائن مضادة على ما قالوه.

الفوارق على الطريقتين:

نلاحظ على الطريقتين إختلافا قد يؤدي لاختلاف النتيجة وتوضيح ذلك:

  1. إذا كانت الرواية لثقات فإنه على الطريقة الأولى يُأخذ بها، أما على الطريقة الثانية فقد يُأخذ بها – وهو الغالب -، وقد لا يُأخذ بها وذلك إذا قامت قرائن معاكسة لها سلبت الإطمئنان والوثوق بها.
  2. إذا كانت الرواية لضعاف فإننا لن نأخذ بها على الطريقة الأولى، بينما على الطريقة الثانية فقد نأخذ بها إذا قامت قرائن عديدة على صحة مضمونها والوثوق بمدلولها.

ويتضح لنا هنا عدم صحة القول بإهمال الروايات الضعاف لمجرد كونها مرويات ضعيفة، إذ يمكن للباحث والمحقق أن يجمع رواية ضعيفة على أخرى متفقة معها، وقرينة على صحتها وأخرى، فيتجمّع له كم من الروايات والقرائن التي تعطيه وثوقا بصحة مضمون هذه المرويات.

– الطريقة في التعامل مع التراث العاشوري:

بعدما وضّحنا الطريقة التي يسير عليها الفقهاء في باب استفادة الأحكام من الروايات، هنا يبرز سؤال مهم للغاية وهو هل يمكن الاعتماد على الطريقة ذاتها في التعامل مع التراث والمرويات العاشورية أو لا؟

نقول في الإجابة على ذلك:

إنّ المرويات العاشورية يمكن أن نقسّمها إلى قسمين:

القسم الأول: هي المرويات التي تنقل عن المعصوم (ع) قولا أو فعلا ونحوه، كنقل خطبة للإمام الحسين(ع) أو للإمام السجاد (ع) وغير ذلك.

وفي مثل هذا النحو من المرويات يمكن لنا أن نستعمل الطريقتين ذاتهما التي يتعامل بها الفقهاء.

القسم الثاني: هي المرويات التي لا تنقل عن المعصوم (ع) قولا ولا فعلا ونحوه، وإنما تنقل وقائع تاريخية يتناقلها أناس عاديون عما جرى في كربلاء مثلا، كأن يُنقل حجم معسكر الإمام (ع) ومعسكر ابن سعد عن حميد بن مسلم، أو ينقل حميد هذا وصفا لمقتل أصحاب الإمام (ع) ونحو ذلك.

وهذا القسم لا يمكن لنا أن نطبّق عليه الطريقة الأولى التي يتعامل بها الفقهاء على المشهور، إذ هي طريقة خاصة بالمرويات التي تشتمل على نقلٍ عن المعصوم (ع) ويكون له أثر ديني، إلا على قول آخر.

أما الطريقة الثانية فيمكن لنا أن نطبقها على هذا القسم أيضا كطريقة في التعامل مع المرويات من هذا الصنف، وعندها فما أوجب الوثوق والإطمئنان يُركن إليه، وما لم يوجبه لم يعتمد عليها.

– المشكلة العامة في المرويات العاشورية:

الملاحظ لكتب المقاتل والسيرة يجد أن أكثرها من صنف المرويات الضعيفة، وهنا قد يتعجل البعض بالطعن في هذه الكتب ورفضها.

ولكن هذه المشكلة التي تشكوها كتب المقاتل والسيرة أمكن التغلب على جزء منها من خلال اعتماد اسلوب التحقيق والجمع والتدقيق، الذي وصل جزءٌ منه لحد الوثوق ببعض النقولات لبعض التفاصيل التي جرت في كربلاء، ولذلك من غير المحبذ التعجل برفض هذه المرويات.

– نقل ما لا يقبله العقل ولا الشرع:

من الغريب ما يقوم به البعض من الخطباء من نقل بعض المرويات الواضح فسادها لتصادمها مع الضرورات العقلية أو الشرعية وهي لا تندرج في ضمن المعجز أو الكرامة.

فتعارض مضمون المرويّة مع الضرورات العقلية أو الشرعية يؤدي بها إلى الطرح وترك العمل بمضمونها وعدم ترتيب الأثر، حتى لو كانت الرواية لثقات، إذ تصادم مضمونها مع القواعد العقلية أو الشرعية يعد قرينة على عدم امكان الأخذ بها.

الخلاصة:

تلخّص من كل ما سبق بأننا يمكن لنا أن نتعامل مع المرويات العاشورية على وفق الطرق التالية:

  1. ما كان رواتها ثقات وهذه يمكن الإعتماد عليها.
  2. ما كان رواتها من غير الثقات وضعيفة ولكن قامت القرائن والشواهد على صحة مضمونها فهذه يمكن أن نرتب عليها أثرا.
  3. ما كان رواتها من غير الثقات ولم تقم شواهد على صحة مضمونها وهذه لا يمكن أن نرتب عليها أثرا.
  4. ما كان مضمونها يصطدم مع ضرورة عقلية أو شرعية أو بمثابة الخرافة فهذه لا يمكن أن نرتب عليها أثرا بل قد نقع في إشكال في نقلها، لما قد يسببه النقل من توهين أو تشويه أو كذب على المذهب وأربابه.