– تمهيد
إنَّ استشراء الفساد في الأرض يمثّل كارثة كبيرة تتناقض والهدف الذي خلق الله الإنسان لأجله وأودعه هذه الأرض لتحقيقه، فوجود الانسان في هذه الأرض وسَط إحاطته بمجموعة من الإبتلاءات المختلفة سواء منها الابتلاءات التي تنتُج من طبيعة النفس ذاتها وميلها الحيواني وتصارعه مع الجانب الروحي، أو تلك التي تنتُج من ظروف خارجية تُضيف تعقيدا آخرا في صراع الإنسان مع طرفيه الحيواني والروحي.
وعندما يتغلّب الجانب الحيواني في أناس، تصطنع لدينا شخصيات وإن كانت مختلفة في شكلها عن الحيوانات ولكنها لا تفترق قيد أنملة عنها، بل هي أكثر شراهة وضررا، يقول الباري – سبحانه-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)[1]
توصيف إلهيّ دقيق لتلك الفئة التي ضاعت منها الأرواح، وتلاشى الجانب الروحي من كل كيانها، بعدما سمحت للهوى وللبعد الحيواني من أن يتحرك ويصول ويجول في كل كيانها، فما كان إلا إنقلبت الإنسانية فيهم إلى الحيوانية.
وبعد هذا الانقلاب لم تكن هناك أيّ قيمة للإنسان بحسب نظر المولى – سبحانه-، ولذلك كان على مستوىً واحد مع الأنعام، لا يتمتع بأيّ امتياز عند الله، وقد يكون أشد انحطاطا منها، فلا يمثّل التطور المادي أو التكنولوجي أو غيرها من جنبات أخرى قيمة عند الله – سبحانه- بعدما يذهب البعد الروحي ويتلاشى.
– كي لا تنحرف المسيرة..
لكي يحافظ المولى – سبحانه- على سير الانسان نحو الهدف المنشود أودع في نفس البشرية عناصر ومقومات تنهض ببعده الروحي وتقوّيه متى ما أراد الإنسان ذلك.
كما ويمثّل بعْث الإنبياء والرسل من قبل الله – سبحانه وتعالى- عونا اضافيا لمكنونات النفس الخيّرة، وإمدادا من قبله – سبحانه- للبشرية كي تبقى على خط الرشاد والهدى ولا تحيد عنه.
يقول – سبحانه-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[2].
وتمثّل الشريعة السمحاء أيضًا بكلّ ما تشتمل عليه من تكاليف وأحكام نوع إرشاد وهداية لصلاح الإنسان، والأحكام التي وردت في الشريعة الإسلامية يمكن لنا أن نقسّمها على قسمين مهمّين:
الاوّل: هي تلك الأحكام التي تُلاحق حركة الفساد الداخلي النابع من ذات الإنسان ونفسه، وتحاول أن تبني عناصر ومقومات تنهض بالانسان نحو كماله الذاتي، ومثال تلك الأحكام كثير منها: الصلاة والصوم والحج وحرمة الزنا واللواط وغيره.
الثاني: هي تلك الأحكام التي تلاحق حركة الفساد الخارجي التي تكون بالعادة افرازا طبيعيا من افرازات فساد الأفراد، وتحاول هذه الأحكام أن تنهض بالمجتمع وبنائه نحو الكمال والفضيلة.
– الأمر بالمعروف ملاحقة للفساد..
تعدّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ التشريعات الإلهية التي يمثّل تفعيلها نوع ملاحقة للفساد الذاتي والمجتمعي (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[3] (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[4]
وورد عن الإمام علي (ع) في وصيته للحسنين (عليهما السلام) عند الشهادة: (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)[5] .
نعم إنّ تَرك الجو العام للفساد ليتحرك حرّا طليقا كيفما يحلو له، يؤول أمره بعد ذلك بلا شك إلى سيطرة تامة له ولأصحابه، وتقلّد للمفسدين لأعلى المراتب في المجتمع، وفساد الأرض وخرابها (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[6]، هذه هي النتيجة الطبيعية متى ما أهملت الرقابة والملاحقة للفساد والمفسدين.
– طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. مرتبة
يذكر الفقهاء في رسائلهم العملية مراتبا لإنكار المنكر والنهي عنه، تبدأ بالإنكار القلبي وإظهار الكراهة القلبية، بمثل تقطيبات الوجه أو السكوت وترك الكلام، ثمّ إذا لم تنفع هذه الوسيلة انتُقل الى مرتبة الإنكار القولي وباللسان، من خلال النصيحة أو الموعظة أو التقريع ونحوه، ثم الإنكار باليد وبالفعل من خلال الضرب ونحوه.
ويرى بعض الفقهاء كمثل السيد الخوئي[7] (قده) أنّ الظاهر أن المرتبة الأولى والثانية كلاهما في عرض واحد، فقد نستعمل الثانية ونترك الأولى أو بالعكس أو نستعملهما معا كل ذلك خاضع لتقدير أيّ الطرق سيكون لها التأثير في ردع المرتكب للمنكر ونهيه.
ثم إذا لم تنفع هذه الطريقة انتُقل إلى المرتبة الثالثة، وفي هذه المرتبة لابد من مراعاة الترتيب في مراتبها على الأحوط وجوبا، فلا يُبدأ بالأشد مع كون الأقل منه كافٍ في التأثير والردع للمنكَر.
- ثورة الطف حركة نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
مع بداية حركة الإمام الحسين (ع) تحرّكت أهداف حركته معه، لتكون أهداف الثورة واضحة المعالم ومحددة النقاط، تنطلق في ذلك من سنة الله – سبحانه- في إبانة الحق وجعله واضح المعالم بإزاء الباطل وزيفه (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)[8].
فما إن تقرأ الكلمات التي قالها الإمام الحسين (ع) في مواضع مختلفة حتى تجد مثل هذا الكلمة شاخصة للعيان واضحة وهي: (وأني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليهما السلام))[9].
فهدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو هدف حركة الإمام (ع) وثورته.
– لماذا وصلت المواجهة حتى الشهادة؟!
إذن حركة الإمام الحسين(ع) تعد تجربة عملية في مواجهة الإنحراف، وصل بها الإمام (ع) إلى أقصى مراتب المواجهة، وهي المواجهة بالعنف وبالدم.
ومن هنا يجد المصلحون ثورة الإمام (ع) مادة مهمة للدراسة، تتحدد على ضوئها معالم الرُتبية بين الأسلوب السلمي في التغيير والإصلاح، وأسلوب المواجهة بالعنف.
إذ الملاحظ للترتيب الذي يذكره الفقهاء في مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجد أن البداية بالطريقة السلمية في معالجة المنكر ما دامت محتملة المنفعة والجدوى في مواجهة الفساد لا يُنتقل منها إلى المواجهة بالعنف، بل إنّ الإنتقال إلى هذه المرتبة من المواجهة بحاجة إلى اذن من الفقيه إن كان يستلزم جرحا أو خدشا ونحو ذلك من تفاصيل تُبحث في محلها، تُشدد وتضيّق في مجملها الخناق، كي لا نصل بالمسألة إلى هذه المرتبة.
ومن هنا ندخل في عمق المسألة التي أردنا أن نتناولها وهي إذا كانت المسألة كذلك فإذاً لماذا كانت ثورة الإمام الحسين (ع)؟ إذ قد يقول قائل أنّ ثورة الإمام تعدّ مواجهة للإنحراف وحركة للتصحيح والإصلاح عن طريق المواجهة والعنف وهذه المرتبة لا يُوصَل لها إلا بعد استنفاد المراتب الأخرى!
– هل كانت أمام الإمام (ع) خيارات غير المواجهة؟
بتتبع النصوص الواصلة لنا عن حركة الإمام الحسين (ع) نحو الثورة، يمكن لنا أن نذكر الخيارات الأخرى التي ذُكرت للإمام الحسين (ع) من قِبل البعض بغض النظر الآن عن تفصيل صحتها وسقمها وهي كالتالي:
الأول: خيار المبايعة والتصالح:
وهذا الخيار أشار به محمد بن عمر عندما لقي الإمام الحسين (ع) وابن الزبير إذ قال لهما: (أذكّركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا فإن اجتمع الناس عليه لم تشذّا، وإن افترق الناس عليه كان الذي تريدان)[10].
وهذا الذي أشار عليه ابن عمر في واقع أمره ينطلق من مبدأ قد سُيّس واستفاد منه البعض قبل أن يستفيد منه مثل يزيد ومعاوية، وهو مبدأ الجماعة والإجتماع وعدم شق عصا الأمة ونحوها من مفاهيم حاول القوم شَرْعَنَة حكمهم من خلالها.
الثاني: خيار الهروب والتريّث:
وأبرز من اقترح هذا الخيار للإمام الحسين (ع) هو أخوه محمد بن الحنفية (رض) حيث قال للإمام (ع) لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة: (يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلا لك وأنت أحق بها، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون أنت لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، فقال له الحسين (ع): “فأين أذهب يا أخي؟” قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يصير أمر الناس إليه، فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا. فقال: “يا أخي قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا”. فسار الحسين (ع) إلى مكة)[11].
الثالث: خيار المواجهة والشهادة:
وهو الخيار الذي وقع وسار إليه الإمام (ع)، وربما كان مكان المواجهة مرددا حسب كلمات الناصحين للإمام (ع) بين ثلاث محلات أساسية هي:
- مكة المكرمة .
- كربلاء العراق.
- اليمن.
– اختيار خيار الشهادة بكربلاء عن علم:
خيار مكة المكرمة خيار استبعده الإمام (ع) في قوله لأخيه ابن الحنفية: (يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت)[12].
فالإمام (ع) على علم بما ستؤول إليه الأمور من خذلانٍ وسكوت، فأراد أن تكون الجريمة جريمة تتعلق بإهراق دمه دون أن تقترن بجريمة هتك بيت الله الحرام، لتبقى حُرم الله الأخرى محفوظة، ولا يكون هو سببا لهتكها بعدما كانت هناك خيارات أخرى في الخروج من مكة، تحقق نفس مستوى الأهداف التي أرادها الإمام (ع).
كما وأنّنا لو فرضنا مكة كانت هي الخيار لأمكن ليزيد بعد أن يُجهز على الحسين (ع) وأصحابه (رض) أن يرمّم البيت ويبني الكعبة ويشوّه صورة الإمام الحسين (ع)، ويصوّر المسألة على أساس أنّه (ع) هو السبب في هتك حرمة بيت الله، كما فعل بابن الزبير.
ويظهر من ترجيح الإمام لخيار السير لأهل العراق مع علمه أنّهم قاتلوه بقوله (ع) :( هذه كتب أهل الكوفة إلي ولا أراهم إلا قاتلي)[13] أنّ هناك حيثيات مهمة ترتبط بالعراق ذاته.
فالمتتبع لكلمات الإمام (ع) لا يمكن أن يصرف نظره عن الكمّ الهائل من الكلمات التي ينعى فيها الإمام (ع) نفسه، فالسير الى العراق ما كان إلا سيرا نحو المصرع ومحل الدفن.
فها هو يخطب ويقول للناس: (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملآن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم)[14].
وهي كلمات صريحة في أن مآل أمره إلى الشهادة والقتل، فلذلك من غير المحتمل ما يذكره البعض من أنّ الشهادة فُرضت على الإمام (ع) فرضا نظرا لسوء اختيار الإمام لخيار العراق، نعم هي بالمقاييس الشرعية كما سنوضح لاحقا فُرضت كتكليف شرعي على الإمام (ع).
فليس من الصحيح ما يصوّره البعض من أنّ الإمام (ع) وكأنّه (ع) (حاشاه) لا خِبر له بطبيعة الناس آنذاك، وبظروف الأوضاع العامة، مع أنّ المسألة كانت جليّة جدا وواضحة في رجحان الخذلان على النصر، حتى لمثل محمد بن الحنفية وابن عباس والفرزدق وغيرهم، فكثيرٌ أولائك الذين قالوا للإمام (ع) بأن أهل الكوفة يخذلوه، والإمام (ع) على علم بالكوفة وأهلها أكثر من غيره، فهو الذي خاض الحروب مع أبيه وكان مع أخيه، فكيف يخفى عليه مثل ذلك.
فلا نجد بعد ذلك كله إلا حصر مسير الإمام (ع) إلى العراق إلا أنّه نوع من اختيار لمحل المصرع وهي كربلاء، فهو القائل لأخيه محمد: (أتاني رسول الله (ص) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء ان يراك قتيلا، فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي (ص) إن الله قد شاء أن يراهن سبايا)[15].
تخطيط وإعداد مسبّق للشهادة، بخطىً ثابتة لم يثنها وصول خبر الخذلان وقتل مسلم وهاني (رضي الله عنهما)، ليزداد التأكيد على أنّ خطاه (ع) كان نحو لُقيا الله – عزّ وجل- مع ثلّة رابطت على الإيمان، وقد كان الإمام (ع) يتعاهدهم ويصفّيهم وينتقيهم ويختبرهم في كل موضع موضع حتى بقي معه من بقي، وذهب عنه من ذهب، فما كان إلاّ أن أراهم مصارعهم ومحال دفنهم فثبتوا واستشهدوا.
– لماذا كربلاء العراق؟
فيمكن لنا أن نفهم السر من خلال تعبيرات الإمام (ع) بهذه التعبيرات: (الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء فإذا وردتها فأتوني)[16] (ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء؟ وقد اختارها الله يوم دحا الأرض، وجعلها معقلا لشيعتنا، ويكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة)[17].
السرّ في كربلاء كان خفيّا ومغيّبا عند استشهاد الإمام (ع) رغم هذه الكلمات، ولكن باتت هذه الكلمات اليوم واقعا نتلمّسه يوما بعد يوم، وسيأتي يوم ظهور قائم آل بيت محمد (عج) ليصبح ما قاله الإمام الحسين (ع) بكل حذافيره واضحا جلياً لا ريب فيه.
فالعراق أصبحت بسبب وجود هذه المشاهد المباركة ملاذا للشيعة، وحصنا حصينا لمذهب التشيّع وأهله.
– لماذا اختار الإمام خيار الشهادة؟
من يقرأ ثورة الإمام (ع) لا ينبغي أن يتجاهل بقيّة الأدوار التي قام بها الأئمة (ع)، فالشريعة واحدة اعتمد الله في بيانها على مراحل من التطور والتدرج، فقد يُصدر إمام حكما عاما مطلقا، ويأتي إمام آخر يخصصه ويقيده.
وهذا النحو من التدرج ليس مقصورا على جانب الأحكام الفقهية في جانب العبادات والمعاملات وحسب، وإنّما هو نحوٌ اعتمده الباري – سبحانه- حتى في مجال السياسة والدولة.
فبعد المخالفة لنص النبي (ص) في الخلافة من بعده، ومآل الحكم للخلفاء، يأتي الإمام علي (ع) بعد حين ليعطي حكمه ويبين نهجه ويعيد الأمة إلى سيرة الرسول (ص).
وهكذا الأمر، تأتي ظروف خاصة تُجبر الإمام الحسن (ع) على الصلح مع معاوية، وتسير الأمور وتذهب الظنون بمعاوية حتى يُنصّب ابنه خليفة من بعده، متجاهلا لبنود الصلح مع الإمام الحسن (ع).
وفعل معاوية هذا قد أنهى أمد وصلاحية الصلح المبرم، والإمام الحسن (ع) كان مدركا لذلك فلذلك كان النص في الصلح على مآل الأمر للإمام الحسين (ع) لا ليزيد من بعد معاوية.
وهنا لابد من حركة تسلب هذا التنصيب مصداقيته وشرعيّته، فيأتي دور الإمام الحسين (ع) ليفصل الشرعية عن الحكم القائم، وهذا ما حصل..، فلم يكتسب الحكم الأموي أيّ شرعية في نظر الناس بعد مقتل الحسين (ع) وشهادته.
فثورة الإمام (ع) عزّزت في نفوس الناس وأكدّت أنّ الخلافة حق لأبناء بنت رسول الله (ص) إمام بعد إمام.
وهذا المعنى استغلّه العباسيون في الإستيلاء على الحكم ولكن لما تكشّفت نواياهم زالت عن حكمهم الشرعية، والمأمون من خلال تنصيبه الإمام الرضا (ع) في ولاية العهد محاولة لاكتساب الشرعية والحاكمية من قبل الله ومن قبل رسوله (ص) بعدما زالت عن حكم آل العباس أيضا.
فهذا اذن ما أراده الإمام (ع)، سلب الشرعية لأي حكم وخلافة سوى خلافة أهل البيت (ع)، ولأجل ذلك تعد ثورة الإمام (ع) تمهيدا لظهور الإمام الحجة (عج) لأنّها رسمت هذا المفهوم، وأعطت الشرعية لحكم الإمام (عج) وضرورة خروجه قبل أن يولد وقبل أن يخرج.
أما الأمر الآخر فهو أنّ ثورة الطف أعادت للأدوات والأساليب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمازجها الذي يجب أن يبقى ويُحافظ على شخوصه، تمازج يتمثل في التأكيد على مسألة في غاية الأهمية، ورسالة ترفع في وجه كل ظالم وهي:
كما أنّ هناك طريقا سلميا يمكن للمصلحون أن يسلكوه فكذلك هناك المواجهة والعنف والدم الذي يمكن أن يفعّلوه وينشطوه ويقدموه متى ما اقتضت الحاجة.
كربلاء ذلك البركان الذي لا يهدأ فما زالت ذكراها تُحدث رعبا في قلوب الظلمة والجبابرة، إحياؤها السنوي يعطي شحذا في نفوس المؤمنين والغيارى نحو التحرك والتغيير، وارخاص الغالي والثمين لهذا الدين الحنيف. فلا يكفي بالإنسان أن يقرأ الشهادة مفهوما، وإنّما لابد له أن يعيشها قلبا وفعلا، وثورة الإمام (ع) تُعدّ الحاضن والمدرسة التي يتربّى فيها الإنسان على الشهادة وتغرس في قلبه الشوق والحب لها.
فتحرك الإمام (ع) نحو الشهادة كان بدافع التكليف الشرعي في بيان هذه الحيثيات، إذ لو لم يتحرك (ع) لحدثت في الدين مفسدة لا يمكن جبرها.. شرعية للحكم الجائر.. وسكوت عن انتهاك حرمات الله وعن ارتكاب معاصيه. فدفعا لهذه المفسدة كانت الضرورة لتحويل الاسلوب من السلم إلى المواجهة بالدم.
– الخلاصة:
آمل أني قد وفقت في بيان النقاط التالية:
- فاعلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبة دوما، نحفظ أنفسنا ومجتمعنا من خلالها.
- إنّ حركة الإمام الحسين (ع) حركة نحو التغيير والإصلاح وتطبيق لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- إنّ الامام (ع) تحرّك في حركته من الأول نحو التضحية والفداء.
- لابد أن تكون أداة الدم والمواجهة شاخصة كأداة يلجأ لها المصلحون متى ما اقتضت الضرورة وفقا لضوابطها الشرعية لا أنّها تعطل وتترك.
[1] – سورة الفرقان 43، 44.
[2] – سورة الصف 9.
[3] – سورة آل عمران 104.
[4] – سورة البقرة 251.
[5]– الري شهري، ميزان الحكمة، [1-4]، ط1، دار الحديث، قم- ايران، ج3، ص1945.
[6] – سورة الروم 41.
[7] – راجع منهاج الصالحين ج1 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[8] – سورة النساء 165.
[9]– معهد باقر العلوم (ع)، موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، ط3، دار المعروف للطباعة والنشر، 1995م، ص354.
[10] – ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين (ع)، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط2، 1414هـ، قم-ايران، ص263.
[11] – الشيخ المفيد، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، دار المفيد للطباعة والنشر،[1-2]، ط2، 1993م، بيروت-لبنان، ج2، ص34.
[12] – السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، ط1، 1417، قم- ايران، ص 39 – 40.
[13] – ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين (ع)، ص308.
[14] – العلامة المجلسي، بحار الأنوار، تحقيق دار إحياء التراث العربي،[1-110]، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت – لبنان، 1983م، ج44، ص366-367.
[15] – السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص40.
[16] – معهد باقر العلوم (ع)، موسوعة شهادة المعصومين (ع)، انتشارات نور السجاد،[1-3]، ط1، قم-ايران، ج2، ص96.
[17] – المصدر نفسه.