مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاْنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْـئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً( 29 ) الفتح
هذه الآية المبارة تأتي في سياق الحديث عن صلح الحديبية، وقصة هذا الصلح تبدأ حينما رأى رسول الله (ص) رؤيا ….
وما كان من اختلاف بين المؤمنين في تقبل صلح الحديبية.
والقرآن الكريم يسوق هذه الآية مدحا لأصحاب رسول الله (ص) لما تمتعوا به من صفات وسجايا مهمة وأساسية تشكل عمقا وامتدادا لصلابة الإيمان الحق الذي كانوا يتمتعون به.
فدعونا ننظر في هذه الصفات ومنابعها التي ترتوي منها.
الشدة والرحمة:
عبر الباري سبحانه وتعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) عن صفتين أساسيتن هما صفة الشدة والرحمة، وهما صفتان نفسيتان عاطفيتان تحكمان عاطفة الإنسان المؤمن.
والقرآن في موارد عديدة يركز على جانب الصفات العاطفية ويجعلها تارة محلا للمدح وأخرى محلا للذم.
ومن أمثلة ذلك :
ويكمن السبب في الاعتناء بالجانب العاطفي أنه في كثير من الأحيان يتأثر الجانب الفكري والعملي بالترسبات العاطفية والصفات النفسانية، وذلك أنّ كثيرا منا لا يتمكن من الفصل بين الجانب العاطفي والجانب الفكري والجانب العملي، وبذلك يعيش الإنسان ضعفا في أبعاده العقلية والعملية والأخلاقية نتيجة الخلط بين العقل والعمل والعاطفة.
والباري وهو الخالق البصير بطبيعة وأسرار ما خلق، بتشريعه جملة من الأحكام التي تحكم الجانب العاطفي يسعى للحد من هذا الخلط السيئ بل وجعل التمازج يسير نحو تكامل أعلى وتعاكس وتأثير إيجابي.
وهذا الأمر سيتضح بشكل أكبر من خلال ما يأتي.
الشدة والرحمة التي يتحلى بها المؤمنون، عندما مدحها فهو يدعو إليها هذه جهة والجهة الأخرى أنه قد حدد اتجاه هاتين الصفتين، فالرحمة يكون اتجاهها للداخل بين المؤمنين بعضهم البعض، والشدة اتجاهها للخارج بين المؤمنين تجاه الكفار.
ولا شك أنّ عكس الإتجاهات يعني الوقوع في الخلل الإيماني، فلو وجه المؤمن رحمة للكافر وشدة للمؤمن فإنّ هذا يعني انقلاب إيمانه إلى حالة من النفاق.
ولهاتان الصفتان آثار كبيرة جدا، ولما نعود إلى الظرف الذي نزلت في الآية مادحة لهما، نستنبط أنّ حاكمية هاتين الصفاتين لسلوك المؤمن في المحن والأزمات أمر في غاية الأهمية.
ففي الحروب والمحن نحتاج إلى صفة التراحم بيننا لأنّها تكون المنطلق الذي يغذي كل الصفات الأخلاقية الجميلة في الحياة، فهي تغذي صفة التكافل، والتآخي، وصلة الرحم، والعطف على اليتيم والفقير والمسكين، وصولا للعزة والنصر للمؤمنين وغير ذلك.
والشدة على الكافر من شأنها أن تملئ الكافر وهنا وضعفا وألما وحسرة على حسرة.
كما وأن التراحم يعطي المجتمع المؤمن حصانة ومتانة قوية جدا ضد أي محاولة من الأعداء للنيل منه.
فلذا من الغريب ما يقوم به البعض من الشدة على بعض المؤمنين حينما يختلف معه في وجهة نظر ما ويمارس كل أنواع السب والتسفيه والتخوين محاولا بكل جهده تسقيطه واغتيال شخصيته وعزته وكرامته.
من أين تتغذى هاتين الصفتين:
يقول الباري سبحانه بعد ذكره للصفات : (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
المفسرون عدوا هذه ذكرا لصفات أخرى وهي الركوع والسجود ابتغاء الفضل من الله.
وإني استظهر أنّ هذه صفات تشكل المنبع والرافد الذي يرفد صفتا الرحمة والشدة معا.
1- الركوع:
فالركوع لله يعبر عن الإنحاء والخضوع، فهو كسر للتكبر والاستعلاء الذي تعيشه النفس.
ولكي يمتلئ قلبك رحمة على أخيك المؤمن لابد أن تتخلص من التكبر والاستعلاء، فالكبر والعلو هو ما يدفع نحو الظلم والأنانية وحب الذات واستحقار الآخرين وإهانتهم.
2- السجود:
والسجود هو قمة الإخلاص لله سبحانه، ومنه تتغذى صفة الشدة حيث لا يرضى المؤمن بشريك لله على المستوى العملي، والكافر ممن يشرك بالله سبحانه وممن لا يريد بالإسلام خيرا، فهنا إذا أخذته بالرحمة تسلل الشيطان إلى قلبك ومن ثم إلى عقلك وإلى عملك لتجد نفس قد أشركت بالله فاتخذته صديقا ورفيقا ولم تتخذه عدوا.
3- إبتغاء الفضل والرضوان من الله:
نعم قد يعاني الإنسان في ممارسة التواضع والتراحم مع الآخرين، ذلك أن النفس تميل نحو الدوران على الذات وتقدس الأنا .
وهنا الإسلام يدعو المؤمن ليجعل له محورا آخر تدور حوله ذاته وعقله وأفكاره وأخلاقه، وهذا المحور هو رضا الله عز وجل فما كان يرضي الله أخذ به ولو كان على نفسه وما كان فيه غضب الله تركه وذره وراءه وإن كان فيه ما اشتهت نفسه.
سيماهم في وجوههم من أثر السجود
السيماء بمعنى العلامة وعلامة صفات المؤمن التي ذكرت تكون لائحة في جبهته، والقرآن هنا يعبر عن أنّ حالة الإيمان القلبي العاطفي الذي يعيشه هؤلاء انعكس على الجسد فأثر فيه ومن هنا نفهم أن التأثر الجسدي لا قيمة له إلا باعتبار أنه يحكي عن واقع ما يعيشه الإنسان من إيمان قلبي راسخ وعميق.
محمّد رسول الله).
سواء رضي به خفافيش الليل كسهيل بن عمرو أم لم يرضَ به؟! واخفوا أنفسهم عن هذه الشمس التي أشرقت على العالم أجمع أم لم يُخفوا؟! فالله يشهد على رسالته ويشهد بذلك العارفون.
ثمّ تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم: (والذين معه أشدّاء على الكفّار).
وصفتهم الثانية أنّهم: (رحماء بينهم).
أجل: هم منطلق للمحبّة والرحمة فيما بينهم كما أنّهم نار ملتهبة وسد محكم بوجه أعدائهم الكفّار…
وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين: «الرحمة» و«الشدّة»… لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلاً، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفّار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً…
ثمّ تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثّالث فتقول: (تراهم ركّعاً سجّداً).
هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: «الركوع والسجود» على أنّها حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.
أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب، والباعث على تحرّكهم في حياتهم جميعاً هو هذا الهدف ليس إلاّ!…
حتى التعبير بـ«فضلاً» يدل على أنّهم معترفون بتقصيرهم ويرون أعمالهم أقل من أن يطلبوا الثواب من الله، بل إنّهم مع كلّ عبادتهم وأعمالهم الصالحة ما يزالون قائلين: لولا فضلك يا ربّنا فالويل لنا..
أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)(3).
«سيما» في الأصل معناها العلامة والهيأة، سواءً أكانت هذه العلامة في الوجه أم في مكان آخر وإن كانت في الإستعمال العرفي تشير إلى علامة الوجه! والأثر الظاهريّ له…
وبعبارة أُخرى أنّ قيافتهم تدلّ بصورة جيدة أنّهم أناس خاضعون أمام الله والحق والقانون والعدالة، وليست العلامة في وجوههم فحسب، بل في جميع وجودهم وحياتهم تبدو هذه العلامة…
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى بأنّ «السيماء» هي الأثر الظاهر في الجبهة من السجود أو أثر التراب عليها من مكان السجدة… غير أنّ هذه الآية كما يظهر لها مفهوم أوسع ترتسم ملامحه على وجوه هؤلاء الرجال الربّانيين…
وقال بعضهم: هذه الآية إشارة إلى إشراق وجوههم يوم القيامة كالبدر من كثرة سجودهم….
وبالطبع يمكن أن تكون جباههم ووجوههم على هذه الهيّأة يوم القيامة إلاّ أنّ الآية تتحدّث عن وضعهم الظاهري في الدنيا…
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق في تفسير هذه الجملة أنّه قال: «هو السهر في الصلاة!»(4).
ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني كلّها!…
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: (ذلك مثلهم في التوراة)!
فهذه حقيقة مقولة قبلاً وأوصافٌ وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام…
ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير بـ(والذين معه) يحكي عن معيّة النّبي في كلّ شيء، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره ـ وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.
ثمّ يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول: (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع)(5).
«الشطأ»: معناه الفسيل أو البرعم الذي يخرج إلى جانب الساق الأصلي للزرع… و«آزره» مشتقٌّ من المؤازرة أي المعاونة.
و«استغلظ» مشتقٌّ من مادة الغلظة، أي أنّه متين…
1 ـ يجري على ألسنة الناس وبعض الأدباء قولهم هذا أسلوب شيّق، وهذا التعبير خطأ، والصحيح «شائق» أي مثير للشوق أمّا الشيّق فهو المشتاق (المصحّح).
2 ـ تفسير مجمع البيان، الجزء 5، ص25، القرطبي نقل هذه الرواية عن النّبي أيضاً ذيل الآية 55 من سورة النور، ج7، ص4692.
3 ـ سيماهم: مبتدأ و«في وجوههم» خبره و«من أثر السجود» قد يكون حالاً عن السيماء والأفضل أن تعد (من) نشوية أي: «سيماهم في وجوههم وهذه السيماء والعلامة من أثر سجودهم».
4 ـ «من لا يحضره الفقيه» و«روضة الواعظين»، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص78.
5 ـ هناك كلام بين المفسّرين في جملة «ومثلهم في الإنجيل» أهي جملة مستقلة ووصف آخر عن أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)غير ما وُصفوا في التوراة، أم هي معطوفة على جملة ذلك مثلهم في التوراة؟ فيكون الوصفان مذكورين في كتابين سماويين! الظاهر أنّ الآية ذكرت الوصفين كلاًّ على حدة في كتاب سماوي ولذلك كرّرت كلمة «مثلهم» ولو كان هذا الوصف معطوفاً على السابق لاقتضت الفصاحة أن يكون التعبير: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.
وجملة «استوى على سوقه» مفهومها أنّ هذا الزرع بلغ قدراً من المتانة بحيث ثبت على سيقانه: و«سوق» جمع ساق ـ والتعبير بـ«يعجب الزرّاع» يعني أنّ هذا الزرع يكون سريع النمو كثير البراعم وافر النتاج إلى درجة يُسرّ به الزراع ويعجبون منه، والطريف أنّ وصفهم الثّاني في الإنجيل جاء على خمسة أمور أيضاً هي: