يقول الباري سبحانه:

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـفِرين)

تتحدث هذه الآيات الكريمات عن بدء الخليقة، والتأمل في هذه الآيات يرسم لنا الخط العام الذي حدده المولى عند خلق الإنسان.

فدعونا نتأمل في مفاصل هذه الآيات الكريمات لنستجلي منها العبر وهدى الله الذي يهدي إليه من يشاء.

أولاً: ما حقيقة الشيطان وما الذي دعاه للإباء:

“الشّيطان” اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشّياطين. أمّا “إبليس” فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم([1]).

وقد صرح القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) الكهف 50، بأنّ إبليس كان من الجن.

فلماذا كان مأمورا بأمر واحد من قبل الله هو والملائكة؟

هنا نصل إلى جانب آخر في حقيقة إبليس، وهو أنه كان ممن يعبد الله عز وجل كثيرا حتى صار في صفوف الملائكة في السماء، وقد ورد عن الصادق (ع): (أن إبليس عبد الله في السماء سبعة الاف سنة في ركعتين فأعطاه الله ما أعطاه ثوابا له بعبادته)[2].

فما الذي دفع إبليس على معصية أمر الله عزّ وجل:

إنّ أناسا قد يعيشون الإيمان الظاهري فيتغلبون على هوى أجسادهم الظاهرية، فيُتعبون أجسادهم في عبادات توحي للآخرين أنهم في قمة الإيمان.

وهذه العبادة الظاهرية إذا لم تنعكس على الداخل لتملئ القلب نورا وصفاءً، فإنّ كل تلك العبادة لا تنفع صاحبها شيئا.

فمعصية الله لا تقتصر على الفعل والعمل الخارجي فقط (أفعال الجوارح)، وإنّما هناك ذنوبا من أفعال القلب وجوانحها كالضغينة، والعداوة، والحسد وهو من أكبرها.

وإبليس قد وقع في الذنب بقسميه: الجوارحي والجوانحي.

ولتوضيح ذلك نذكر هذه المرويات:

– ورد عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام) قال إِبْليسُ: “لَئِنْ أَمْرَنِي اللهُ بِالسُّجُودِ لِهَذَا لَعَصَيْتُهُ إِلى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: أُسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا فَأَخْرَجَ إِبْلِيسُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَدِ فَأَبِى أَنْ يَسْجُدَ”.

– وعن الإمام الصادق (عليه السلام): لما هبط نوح (عليه السلام) من السفينة أتاه إبليس، فقال له: ما في الأرض رجل أعظم منّة علي منك، دعوت الله على هؤلاء الفساق فأرحتني منهم، ألا أعلمّك خصلتين: إياك والحسد فهو الذي عمل بي ما عمل، وإياك والحرص فهو الذي عمل بآدم ما عمل.

– وعن الإمام علي (ع): (إياك والكبر، فإنه أعظم الذنوب وألأم العيوب، وهو حلية إبليس. – وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إياكم والكبر، فإنّ إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم).

– الإمام علي (عليه السلام): فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد… عن كبر ساعة واحدة!).

نعم الحسد (كفعل جوانحي) والكبر (كفعل جوارحي) هما المعصيتان اللتان دفعتا إبليس لينجر إلى معصية الله في أمره سبحانه بالسجود.

الحسد الذي يكاد أن يقتل صاحبه، ولسنا بصدد بيان الآثام التي يعيشها الحسود إذ أننا نبحث الآيات الكريمات بحثا قرآنيا عاما، ولكن اذكر استطراد بعضا منها على ما وردت به الروايات:

– عن الإمام علي (عليه السلام): الحسد يضني الجسد.

– وعنه (عليه السلام): الحسد يذيب الجسد.

– وعنه (عليه السلام): الحسد ينشئ الكمد.

– وعنه (عليه السلام): الحسود دائم السقم وإن كان صحيح الجسم.

هذه هي الآثام التي يعيشها الحسود، وهناك آثار تلحق بالطرف المحسود كضحية وفريسة افترسها الحسود بسواد قلبه.

والكبر ذاك الذي عاش في قلب إبليس الرجيم وجوارحه حتى اعتقد أنه الأجدر بالسجود إليه من آدم، وأنّه أفضل من آدم.

وهكذا يفعل الكبر بصاحبه يحجبه عن النواقص التي في شخصيته ويعيش الوهم بكمال نفسه وخلوها من العيوب وهو الناقص والمعيوب.

­- لمن كان السجود؟

الذي يمكن الذهاب إليه أن السجود كان لله سبحانه وتعالى لمّا خلق وسوىّ آدم ونفخ فيه من روحه، فكان السجود للخالق والمعبود وهو الله سبحانه، والمخلوق (آدم) كان الجهة التي سجد لها الملائكة حيث تجلت قدرة الله، وكانت كرامة آدم أنه كان مظهرا لذلك التجلي الإلهي.

ثانيا: ما بعد الإباء واختبار آدم:

(وَكَانَ مِنَ الْكَـفِرين * وَقُلْنَا يَــَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَُما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـلِمِينَ).

تتحدث الآيات هنا عما بعد عصيان في جهتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالشيطان، والثانية تتعلق بآدم.

أمّا الشيطان فقد أصبح من الكافرين.

وقد تقول كيف أصبح عمل الشيطان السابق هباء لا قيمة له لمجرد ذنب واحد؟

نصل إلى معنى مهم جدا لابد لنا أن نتنبه عليه وهو (حبط الأعمال)، يقول الباري سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).

إن هناك من الذنوب ما يلوّث الإيمان أو يحدث أضرارا فيه، يمكن للإنسان أن يعالجها ليعيد للإيمان نوره، وهناك من الذنوب ما يُحدث انفجارا هائلا في الإيمان فلا يعود للإيمان أي أثر وهذا هو حبوط الأعمال.

إنّ إبليس لم تراوده المعصية نتيجة حسده وكبره فتوقف عند معصية السجود، وإنّما صار يعتقد أن ما قدره الله من السجود لآدم ليس بصواب أصلا، فهو الشرك.

فالحسد والتكبر والغرور قاد إبليس للكفر بالله سبحانه وتعالى جلت قدرته.

أما ما يتعلق بآدم فقبل أن يُنزل إلى الأرض التي خلق ليعيش فيها بقول الباري سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، احتاج لاختبار مهم يكون تحت عناية الله ونظره القريب، ليتعلم آدم درسا مهما، فما كان من المولى عزّ وجل إلا أن جعله في جنّة له كل ما يريد فيها ويشتهي إلا شجرة نهي عنها.

ثالثا: وساوس الشيطان تجعل آدم على المحك:

بعدما دخل آدم وزوجه الجنة دخل إبليس معهما، وكان همّ إبليس وما يزال أن يظهر عدم كفاءة آدم في تولي الاستخلاف الإلهي، فأخذ يوسوس لآدم ودخل له من باب الحرص، الحرص الذي يدفع بالإنسان إلى أن يسعى لما لا يكون تحت يده حتى لو كان كل شيء في يده.

وأخذ يغريه ويقنعه بأمور هي أوهام (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).

وهذا ديدنه التدليس والإلباس، حتى أقدم آدم على الأكل من تلك الشجرة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـعٌ إِلَى حِين).

وهنا لابد أن ننبه أن آدم كسائر الأنبياء معصوم من الزلل، فالأكل من الشجرة لا يشكل ذنبا قادحا في عصمة آدم وإنّما هو فعل لما كان الأولى منه تركه، كمثل ترك المؤمن الجليل القدر لنافلة المغرب أو لزيارة وعيادة أخيه المؤمن، فإنّ الناس قد تعاتبه على ذلك رغم أنّه ليس ذنبا يستوجب العقاب الإلهي.

نعم ذلك يخفض من مستوى الاستعداد والكمال والروحي، وهذا أمر مقبول لأن الأنبياء ليسوا في درجة كمال واحدة، فإنّ نبينا محمد (ص) هو أكملهم حتى كانت الشفقة الإلهية عليه في قوله: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى).

– ما بعد الاختبار وعودة آدم لله:

(فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَـت فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

بعدما أكل آدم من تلك الشجرة تبين لآدم الوهم الكبير الذي وسوس به الشيطان، فما كان منه إلا أن يعود في حركة تصحيحية تعالج تعيده لله سبحانه وتعالى، فكانت التوبة الباب الذي يعود بالإنسان كله لله متى ما أبعده الشيطان وأغواه. لتتلقاه لرحمة الإلهية وتشمله ليبدأ من جديد، ويصدر القرار الإلهي بأنّ الحكمة من الإختبار قد تمت، وتهيئ آدم وتحضّر ليسكن في الأرض ويبدأ مشوار الحياة الإنسانية على كوكب الأرض.

– أمّا ما هي العبر من هذه الآيات:

يمكن لنا أن نلخّص العبر التي استفدناها من هذه الآيات:

1- إنّ الحسد والتكبر يقودان صاحبهما للشرك والكفر.

2- إنّ الشيطان عدو للإنسان (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)، ولابد من معرفة ذلك، وهو يقوم بالوساوس ليختبر مدى صلابة إيمانه.

3- تحمّل مسؤولية التكليف الإلهي على أتم وجه.

4- النظر إلى مساحات النعم التي أنعم بها علينا الله عزّ وجل وتجنب التركيز على ما نهانا عنه.

5- التوبة باب لعودة العصاة لله سبحانه.


[1] – الأمثل في تفسير القرآن، ناصر مكارم الشيرازي.

[2]– بحار الأنوار ج60.